للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

{وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم: ٧] قِيلَ عِبَارَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِبَنِي إسْرَائِيلَ فَهَذِهِ الْأُمَّةُ أَوْلَى بِجَوَازِ السَّعَادَةِ. عَنْ الْبَيْضَاوِيِّ لَئِنْ شَكَرْتُمْ يَا بَنِي إسْرَائِيلَ مَا أَنْعَمْت عَلَيْكُمْ مِنْ الْإِنْجَاءِ وَغَيْرِهِ بِالْإِيمَانِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ لَأَزِيدَنَّكُمْ نِعْمَةً، وَعَنْ ابْنِ عَطَاءٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لَئِنْ شَكَرْتُمْ هِدَايَتِي لَأَزِيدَنَّكُمْ خِدْمَتِي، وَلَئِنْ شَكَرْتُمْ خِدْمَتِي لَأَزِيدَنَّكُمْ رُؤْيَتِي وَلَئِنْ شَكَرْتُمْ الْإِيمَانَ لَأَزِيدَنَّكُمْ الْإِحْسَانَ، وَلَئِنْ شَكَرْتُمْ الْإِحْسَانَ لَأَزِيدَنَّكُمْ الْمَعْرِفَةَ، وَلَئِنْ شَكَرْتُمْ الْمَعْرِفَةَ لَأَزِيدَنَّكُمْ الْوَصْلَةَ.

وَعَنْ صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - «كَانَ يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ حَتَّى تَوَرَّمَتْ قَدَمَاهُ فَقَالَتْ عَائِشَةُ أَتَصْنَعُ هَذَا، وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَك مِنْ ذَنْبِك مَا تَقَدَّمَ وَمَا تَأَخَّرَ فَقَالَ أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا» {وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم: ٧] قَالَ فِي مِفْتَاحِ السَّعَادَةِ مَا حَاصِلُهُ أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي الشُّكْرِ مِنْ مَعْرِفَةِ مَا خُلِقَ كُلُّ شَيْءٍ لَهُ، وَكُلُّ ذَرَّةٍ لَا تَخْلُوا عَنْ حِكَمٍ كَثِيرَةٍ مِنْ وَاحِدَةٍ إلَى عَشْرٍ بَلْ إلَى أَلْفٍ فَمَنْ اسْتَعْمَلَ شَيْئًا فِيمَا خُلِقَ لَهُ مِنْ الْحِكَمِ صَارَ شُكْرًا، وَإِلَّا صَارَ كُفْرًا مَثَلًا الْيَدُ خُلِقَتْ لِيَدْفَعَ بِهَا عَنْ نَفْسِهِ مَا يُهْلِكُهُ وَيَأْخُذَ مَا يَنْفَعُهُ لَا لِيُهْلِكَ بِهَا غَيْرَهُ فَمَنْ ضَرَبَ بِيَدِهِ غَيْرَهُ فَقَدْ كَفَرَ نِعْمَةَ الْيَدِ، وَكَذَا لَوْ اسْتَنْجَى بِالْيَمِينِ فَقَدْ كَفَرَ مَا خُلِقَتْ لَهُ الْيَمِينُ، وَكَذَا الْبَصَرُ لِيَنْظُرَ مَا يَنْفَعُهُ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا وَيَتَّقِي مَا يَضُرُّ فِيهِمَا فَلَوْ نَظَرَ إلَى الْمُحَرَّمِ مَثَلًا فَكَفَرَ نِعْمَةَ الْإِبْصَارِ.

وَكَذَا سَائِرُ الْأُمُورِ كَالْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَبِالْجُمْلَةِ إنَّ كُفْرَانَ النِّعْمَةِ أَنْ لَا يَسْتَعْمِلَ كُلَّ نِعْمَةٍ فِيمَا خُلِقَتْ لَهُ قَالَ الْحَسَنُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - حَقِيقَةُ الشُّكْرِ أَنْ تُطِيعَ اللَّهَ بِجَمِيعِ جَوَارِحِك فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ فَشُكْرُ الْعَيْنِ أَنْ لَا تَنْظُرَ إلَى الْحَرَامِ، وَأَنْ تَسْتُرَ عَيْبًا تَرَاهُ لِصَاحِبِك وَشُكْرُ السَّمْعِ أَنْ لَا تَسْمَعَ إلَّا الْحَقَّ، وَأَنْ تَسْتُرَ عَيْبًا سَمِعْته وَشُكْرُ اللِّسَانِ أَنْ لَا تَكْذِبَ وَتَغْتَابَ وَشُكْرُ الْقَلْبِ أَنْ لَا تَغْفُلَ وَشُكْرُ الْيَدَيْنِ أَنْ لَا تَتَنَاوَلَ بِهِمَا الْحَرَامَ وَشُكْرُ الرِّجْلَيْنِ أَنْ لَا تَمْشِيَ بِهِمَا الْحَرَامَ وَشُكْرُ الْبَطْنِ أَنْ لَا تَأْكُلَ الْحَرَامَ وَشُكْرُ الْفَرْجِ أَنْ لَا تَزْنِيَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ} [النساء: ١٤٧] قَالَ الْحَسَنُ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَحَقُّ النَّاسِ بِالنِّعَمِ أَشْكَرُهُمْ لَهَا وَنِعْمَةٌ لَا تُشْكَرُ خَطِيئَةٌ لَا تُغْفَرُ» .

(ت عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قَالَ الطَّاعِمُ الشَّاكِرُ بِمَنْزِلَةِ الصَّائِمِ الصَّابِرِ» أَشْكَلَ أَنَّ نَتِيجَةَ النَّعْمَاءِ الشُّكْرُ وَنَتِيجَةَ الْبَلَاءِ الصَّبْرُ فَلَا جَامِعَ بَيْنَهُمَا فَكَيْفَ يَصِحُّ التَّشْبِيهُ؟ . وَأُجِيبَ بِأَنَّ نِصْفَ الْإِيمَانِ صَبْرٌ وَنِصْفَهُ الْآخَرَ شُكْرٌ فَقَدْ يُتَوَهَّمُ أَنَّ الشُّكْرَ يَقْصُرُ عَنْ الصَّبْرِ فَكَيْفَ الْمُنَاصَفَةُ فَأُزِيلَ بِأَنَّهُمَا سِيَّانِ فِي الثَّوَابِ لَا يَخْفَى أَنَّ الْأَصْلَ كَوْنُ وَجْهِ الشَّبَهِ قَوِيًّا فِي الْمُشَبَّهِ بِهِ فَكَيْفَ يَدُلُّ عَلَى التَّسَاوِي عَلَى أَنَّ النُّصُوصَ أَنَّ الصَّبْرَ لَا يَعْدِلُهُ عَمَلٌ؟ . وَأُجِيبَ أَيْضًا بِأَنَّ الشَّاكِرَ لَمَّا رَأَى النِّعْمَةَ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى وَصَبَّرَ نَفْسَهُ عَلَى مَحَبَّةِ الْمُنْعِمِ بِالْقَلْبِ، وَإِظْهَارِهَا بِاللِّسَانِ نَالَ دَرَجَةَ الصَّابِرِ قَالَ الْغَزَالِيُّ هَذَا دَلِيلٌ عَلَى فَضْلِ الصَّبْرِ؛ لِأَنَّهُ ذُكِرَ فِي إلْحَاقِ الشُّكْرِ إلَيْهِ كَذَا فِي الْفَيْضِ أَقُولُ تَفْصِيلُهُ مَا فِي الْمِفْتَاحِ أَنَّهُ قَالَ بَعْضُهُمْ الصَّبْرُ أَفْضَلُ مِنْ الشُّكْرِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ بِالْعَكْسِ، وَقَالَ آخَرُونَ سِيَّانِ، وَقَالَ آخَرُونَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ.

اعْلَمْ أَنَّ الْمَفْهُومَ مِنْ الْأَخْبَارِ أَفْضَلِيَّةُ الصَّبْرِ؛ لِأَنَّهُ حَالُ الْفَقْرِ وَالشُّكْرَ حَالُ الْغِنَى إلَّا أَنَّ أَهْلَ التَّحْقِيقِ يُفَصِّلُ ذَلِكَ بِأَنَّ الْعُلُومَ الظَّاهِرَةَ تُرَادُ لِلْأَحْوَالِ وَالْأَحْوَالُ لِلْأَعْمَالِ، وَأَمَّا الْعُلُومُ الْبَاطِنَةُ فَإِنَّمَا تُرَادُ الْأَحْوَالُ لِأَجْلِهَا وَالْأَعْمَالُ لِأَجْلِ الْأَحْوَالِ فَأَفْضَلُ الْكُلِّ مَعْرِفَةُ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنَّمَا يُتَوَسَّلُ إلَيْهَا بِأَحْوَالِ الْقَلْبِ فِي تَصْفِيَتِهِ عَنْ الْمُكَدِّرَاتِ ثُمَّ الْأَعْمَالُ إمَّا أَنْ تُظْلِمَ

<<  <  ج: ص:  >  >>