(الْحَادِثَانِ بَعْدَ الصَّحَابَةِ) أَيْ زَمَانِهِمْ وَأَيْضًا زَمَانُ التَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِمْ لَعَلَّ الْكَلَامَ عَلَى التَّغْلِيبِ أَوْ مِنْ قَبِيلِ الِاكْتِفَاءِ بِمَا هُوَ أَكْثَرُ وَلَا يَبْعُدُ الْحَمْلُ عَلَى الدَّلَالَةِ (بِغَيْرِ إذْنٍ) مِنْ (الشَّارِعِ) فِي ذَيْنِك الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ (لَا قَوْلًا وَفِعْلًا) بِأَنْ يَفْعَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (وَلَا صَرِيحًا) بِقَوْلِهِ (وَلَا إشَارَةً) كَمَا فِيهِ إعَانَةٌ لِلدِّينِ (فَلَا تَتَنَاوَلُ) الْبِدْعَةُ بِهَذَا الْمَعْنَى الشَّرْعِيِّ (الْعَادَاتِ أَصْلًا) الْعَادَةُ مَا يُقْصَدُ فِيهِ غَرَضٌ دُنْيَوِيٌّ كَالْمَلَابِسِ وَالْمَسَاكِنِ وَالْمَآكِلِ وَالْمَشَارِبِ الْمُخْتَرَعَةِ الْآنَ.
فَإِنْ قِيلَ: إنَّ أُمُورَ الدُّنْيَا لَيْسَتْ بِخَارِجَةٍ عَنْ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ إذْ لَا يَخْلُو فِعْلٌ مِنْ أَفْعَالِ الْعِبَادِ عَنْ حُكْمٍ مِنْ أَحْكَامِ الشَّرْعِ قُلْنَا لَعَلَّ الْمُرَادَ مِنْ الدِّينِ هُوَ الْأَحْكَامُ الْمَخْصُوصَةُ بِالْعِبَادَاتِ اعْتِقَادِيَّةً أَوْ عَمَلِيَّةً، فَإِنْ قِيلَ: النُّصُوصُ مَحْمُولَةٌ عَلَى ظَوَاهِرِهَا فَمَا الصَّارِفُ عَنْ ظَوَاهِرِ الْأَحَادِيثِ إلَى هَذَا الْمَعْنَى الْخَاصِّ قُلْنَا بَعْدَ تَسْلِيمِ كَوْنِ هَذَا الْمَعْنَى شَرْعِيًّا فَظَاهِرُ النُّصُوصِ هُوَ الْخُصُوصُ لَكِنَّ الْكَلَامَ فِي ثُبُوتِ هَذَا الْمَعْنَى الشَّرْعِيِّ (بَلْ تَقْتَصِرُ) فِي الشَّرْعِ الْيَوْمَ (عَلَى بَعْضِ الِاعْتِقَادَاتِ) أَيْ أَكْثَرِهَا، فَإِنَّ الْبَعْضَ، وَإِنْ أَوْهَمَ الْقِلَّةَ لِكَثْرَةِ اسْتِعْمَالِهِ فِيهَا لَكِنْ قَدْ يَتَحَقَّقُ فِي ضِمْنِ الْكَثْرَةِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى - {إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات: ١٢]- بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ - {اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ} [الحجرات: ١٢]- فَإِنَّ اعْتِقَادَ السُّنَّةِ جُزْءٌ وَاحِدٌ مِنْ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً كَمَا يُشِيرُ إلَيْهِ الْحَدِيثُ (وَبَعْضِ صُوَرِ الْعِبَادَاتِ) إنْ كَانَا بِالرَّأْيِ الْمُجَرَّدِ لَا عَنْ دَلِيلٍ فَالزِّيَادَةُ أَوْ النُّقْصَانُ الْوَاقِعَانِ بَيْنَ الْمُجْتَهِدِينَ لِكَوْنِهِمَا عَنْ دَلِيلٍ وَلَوْ بِالنِّسْبَةِ إلَى نَفْسِهِ لَا يُعَدَّانِ بِدْعَةً كَصَلَاةِ الْخُسُوفِ بِرُكُوعَيْنِ وَسُجُودَيْنِ وَفَاتِحَتَيْنِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ عِنْدَ الشَّافِعِيّ خِلَافًا لِلْحَنَفِيِّ.
فَالْبِدْعَةُ مَا كَانَ بِالرَّأْيِ الْمُجَرَّدِ كَزِيَادَةٍ فِي غَسْلِ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ بِصَبِّ الْمَاءِ عَلَى التَّثْلِيثِ إنْ اُعْتُقِدَ عِبَادَةً فَبِدْعَةٌ، وَإِنْ وَسْوَسَةً فَمَكْرُوهٌ وَغَسْلِ الثَّوْبِ الْجَدِيدِ لِاحْتِمَالِ النَّجَاسَةِ كَذَلِكَ (فَهَذِهِ) الْبِدْعَةُ الشَّرْعِيَّةُ لَا الْعَادِيَةُ (هِيَ مُرَادُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -) مِنْ قَوْلِهِ «فَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ» فَحَاصِلُهُ أَنْ يُرَادَ مِنْ كُلِّ بِدْعَةٍ فِي الشَّرْعِ حَالَ عَدَمِ إعَانَتِهَا عَلَى الطَّاعَةِ ضَلَالَةٌ (بِدَلِيلِ) مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ تَتَنَاوَلُ.
(قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) فِيمَا سَبَقَ «فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي» يَرِدُ عَلَيْهِ أَنَّهُ إذَا كَانَتْ الْبِدْعَةُ حَقِيقَةً شَرْعِيَّةً فِي هَذَا الْمَعْنَى لَا يَحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ وَقَرِينَةٍ فِي تَخَاطُبِ الشَّرْعِ لَعَلَّ الْأَوْلَى أَنْ يَنْصِبَ الدَّلِيلَ عَلَى كَوْنِ ذَلِكَ الْمَعْنَى مَعْنًى شَرْعِيًّا لَا عَلَى عَدَمِ التَّنَاوُلِ وَأَنَّ الْعَادِيَّاتِ مِنْ أَفَاعِيلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هِيَ سُنَّةُ الزَّوَائِدِ فَكَيْفَ يَكُونُ دَلِيلًا عَلَى عَدَمِ تَنَاوُلِ الْعَادِيَّاتِ وَمَا يُقَالُ مِنْ أَنَّ مَجِيئَتَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّمَا هِيَ لَلدِّينِ لَا لِلدُّنْيَا فَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ الْعَادِيَّاتِ سُنَّةً مُخَالِفَةً لِلْفِقْهِ وَالْأُصُولِ إلَّا أَنْ يُرَادَ مِنْ السُّنَّةِ هُنَا الْكَامِلَةُ بِجَعْلِ الْإِضَافَةِ لِلْعَهْدِ بِمَعْنَى الْفَرْدِ الْكَامِلِ عَلَى مَا يُقَالُ: إنَّ الشَّيْءَ إذَا ذُكِرَ مُطْلَقًا يُصْرَفُ إلَى الْكَمَالِ أَوْ بِقَرِينَةِ «عَلَيْكُمْ» فِي الْحَدِيثِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي اللُّزُومَ وَالْمُنَاسِبُ لِلُّزُومِ هُوَ سُنَّةُ الْهُدَى لَا الزَّوَائِدُ وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَيْضًا أَنَّ الصَّدْرَ الْأَوَّلَ شَامِلٌ لِمَا بَعْدَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ إلَى انْقِرَاضِ الصَّحَابَةِ بَلْ إلَى انْقِرَاضِ التَّابِعِينَ أَوْ تَبَعِ التَّابِعِينَ فَلَا تَقْرِيبَ فِي دَلَالَةِ هَذَا الدَّلِيلِ إلَّا أَنْ يُقَالَ لَيْسَ هَذَا الْحَدِيثُ مُسْتَقِلًّا فِي الدَّلَالَةِ بَلْ مَعَ مَا بَعْدَهُ أَوْ هَذَا دَلِيلٌ عَلَى جُزْءِ الْمَدْلُولِ لَا عَلَى تَمَامِهِ فَافْهَمْ.
«وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ» لَعَلَّ وَجْهَ دَلَالَةِ ذَلِكَ مَبْنِيٌّ عَلَى مُقَدِّمَتَيْنِ إحْدَاهُمَا إرَادَةُ عَدَمِ شُمُولِ السُّنَّةِ هُنَا إلَى الْعَادِيَّاتِ إمَّا بِقَرِينَةِ لَفْظِ عَلَيْكُمْ الظَّاهِرُ فِي اللُّزُومِ أَوْ بِكَوْنِ السُّنَّةِ الدِّينِيَّةِ هِيَ الْكَمَالَ وَثَانِيَتُهُمَا مَا نُقِلَ عَنْ الْفَتَاوَى الْبَزْدَوِيَّةِ أَنَّ الْبِدْعَةَ الْمَمْنُوعَةَ مَا يَكُونُ مُخَالِفًا لِسُنَّةٍ أَوْ لِحِكْمَةِ مَشْرُوعِيَّةِ سُنَّةٍ فَنَقُولُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute