للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَغُفُولٍ بَعِيدٍ وَتَقُولُ النَّارُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ.

وَإِنَّ فِيهَا دَارًا أُخْرَى أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ فِي اللَّهِ جَاهَدُوا وَصَارُوا مِنْ الْمُهْتَدِينَ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ وَمُلْكٌ كَبِيرٌ عَظِيمٌ وَنَضْرَةُ النَّعِيمُ عِزَّتُهَا بَاقِيَةٌ وَنِعَمُهَا صَافِيَةٌ وَعَنْ الْفَنَاءِ خَالِيَةٌ لَيْسَ فِيهَا لَاغِيَةٌ وَقُطُوفُهَا دَانِيَةٌ وَأَذْوَاقُهَا مُتَوَالِيَةٌ شَرَابُهَا رَحِيقٌ وَلِبَاسُهَا حَرِيرٌ أَنِيقٌ وَسُنْدُسٌ وَإِسْتَبْرَقٌ عَمِيقٌ فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ وَسُرَرٌ مَرْفُوعَةٌ وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ مُتَّكِئِينَ عَلَى أَرَائِكَ مَصْفُوفَةٍ.

فِيهَا الْوِلْدَان وَالْغِلْمَانُ وَحُورٌ عَيْنٌ كَاللُّؤْلُؤِ وَالْمَرْجَانِ شَكِلَاتٌ غِنْجَاتٌ آمِنَاتٌ مِنْ الْهَرَمِ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخَيْمِ يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ مِنْ مَاءٍ مَعِينٍ بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَفِيهَا مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ وَعَتْ وَلَا عَلَى قَلْبٍ خَطَرَتْ وَأَعْظَمُ النِّعَمِ الْقَوِيَّةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ رُؤْيَةُ الْمَلِكِ الْمُقْتَدِرِ عَلَى الِاتِّفَاقِ، وَبِمَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدِينَ فِيهَا عَلَى الْوِفَاقِ.

وَلَا شَكَّ أَنَّ الْخَلَاصَ مِنْ الدَّارِ الْأُولَى وَالْوُصُولَ إلَى الثَّانِيَةِ فِي الْعُقْبَى إنَّمَا يَحْصُلَانِ بِالتَّشَرُّعِ بِالشَّرْعِ الْمَتِينِ وَالتَّسَنُّنِ بِأَصَحِّ السَّنَنِ الْمَكِينِ وَالِاحْتِرَازِ عَنْ الْبِدَعِ وَالْمُنْكَرَاتِ وَدَوَاعِي فَاسِدَاتِ الْمُيُولَاتِ وَتَهْذِيبِ الْأَخْلَاقِ الرَّدِيئَةِ وَتَحْلِيَةِ الْمَلَكَاتِ الْحَمِيدَةِ وَصِدْقِ الْمُجَاهَدَةِ فِي تَحْصِيلِ الْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ وَقَهْرِ إمَارَةِ النَّفْسِ وَالْمُيُولَاتِ الْفَاسِدَاتِ كَمَا قِيلَ الْإِسْلَامُ ذَبْحُ النَّفْسِ بِسُيُوفِ الْمُجَاهَدَةِ وَتَرْكُ الْهَوَى بِالْمُخَالَفَةِ فَإِنَّهَا مُعِينَةٌ لِلْأَعْدَاءِ سَائِقَةٌ لِلْأَسْوَاءِ، سَيْفُ الشَّيْطَانِ وَآلَةُ الْعِصْيَانِ وَمَنْشَأُ الطُّغْيَانِ أَعْدَى الْأَعْدَاءِ وَبَلَاؤُهَا أَصْعَبُ الْبَلْوَى وَعِلَاجُهَا أَعْسَرُ الْأَشْيَاءِ وَدَاؤُهَا أَعْضَلُ الدَّاءِ وَدَوَاؤُهَا أَشْكَلُ الدَّوَاءِ لِأَنَّهَا عَدُوٌّ مِنْ الدَّاخِلِ وَلَيْسَ لِدَفْعِ ضُرِّهِ كَافِلٌ

نَفْسِي إلَى مَا ضَرَّنِي دَاعِي ... تُكْثِرُ أَسَقَامِي وَأَوْجَاعِي

كَيْفَ احْتِيَالِي مِنْ عَدُوِّي إذَا ... كَانَ عَدُوِّي بَيْنَ أَضْلَاعِي

إنَّهَا عَدُوٌّ مَحْبُوبٌ وَذَنْبُ الْمَحْبُوبِ مَرْغُوبٌ بَلْ مُسْتَحْسَنٌ وَمَطْلُوبٌ فَكُلُّ الْفَضَائِحِ إنَّمَا تَنْشَأُ مِنْهَا وَكُلُّ الْمَصَائِبِ إنَّمَا يَتَحَصَّلُ بِهَا وَأَيْضًا مُخَالَفَةُ الشَّيْطَانِ الَّذِي هُوَ عَدُوٌّ مَكِينٌ إنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ فَغَايَةُ جَهْدِهِ لَيْسَ إلَّا هَلَاكًا قَوِيًّا {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا} [فاطر: ٦] غَوِيًّا فَمَجْبُولٌ عَلَى إيقَاعِ كُلِّ خِزْيٍ عَلَيْهِ قَدِيرٌ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ وَقَدْ نَصَبَ نَفْسَهُ لِإِيقَاعِ النَّارِ الْحَمِيمِ {لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} [الأعراف: ١٦] .

إلَى أَنْ قَالَ {لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ} [الأعراف: ١٧] فَيَنْفُذُ حُكْمُهُ لِقَوْمٍ غَافِلِينَ {وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف: ١٧] فَيُوقِعُهُمْ إلَى فِتْنَةِ الْمَعَاصِي نَحْوَ ذُنُوبٍ كَالْجِبَالِ الرَّوَاسِي وَهَذِهِ الْمُخَالَفَةُ وَالْقَهْرُ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ أَنَّ بِاتِّبَاعِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَا اتِّبَاعُهُ إلَّا بِالْإِعْرَاضِ عَنْ الدُّنْيَا وَالْإِقْبَالِ عَلَى الْأُخْرَى فَبِقَدْرِ الْإِعْرَاضِ وَالْإِقْبَالِ قَدْرُ سُلُوكِ سَبِيلِهِ عَلَى الْإِجْمَالِ وَعَلَى قَدْرِ سُلُوكِ سَبِيلِهِ قَدْرُ قُرْبِهِ وَلُحُوقِ زُمْرَتِهِ وَنَيْلِ شَفَاعَتِهِ وَبِقَدْرِ إقْبَالِ الدُّنْيَا قَدْرُ الْبُعْدِ عَنْهُ، وَبِقَدْرِ قُرْبِ الْهَوَى قَدْرُ اللُّحُوقِ فِي زُمْرَةِ {فَأَمَّا مَنْ طَغَى} [النازعات: ٣٧] {وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [النازعات: ٣٨] {فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: ٣٩] وَلَعَمْرِي لَوْ أَنْصَفْنَا مِنْ أَنْفُسِنَا مِنْ الصُّبْحِ إلَى الْمَسَاءِ لَا نَسْعَى إلَّا لِلْعَاجِلَةِ كَأَنَّا لَا نَطْمَعُ الدُّخُولَ بِزُمْرَتِهِ فِي الْآجِلَةِ فَإِنْ ظَنَنَّا ذَلِكَ وَنَحْنُ نُصِرُّ عَلَى فِعْلِنَا فَمَا أَبْعَدَ ظَنَنَّا وَمَا أَبْرَدَ طَمَعَنَا {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لا يَسْتَوُونَ} [السجدة: ١٨] .

{أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ} [القلم: ٣٥] {مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [القلم: ٣٦] ثُمَّ لَمَّا كَانَتْ الطَّرِيقَةُ الْمُحَمَّدِيَّةُ كَافِلًا لِمُعْظَمِ هَذِهِ كُلِّهَا دِقُّهَا وَجُلُّهَا وَلَمْ يُهْمِلْ دَقِيقَةً مِنْ الْمُهْلِكَاتِ وَقَطْرَةً مِنْ الْمُنْجِيَاتِ إلَّا وَقَدْ أَتَى بِأُسْلُوبٍ عَجِيبٍ وَتَرْتِيبٍ غَرِيبٍ وَنَهْجٍ بَدِيعٍ، اجْتَهَدْت فِي شَرْحِهِ وَتِبْيَانِهِ خِدْمَةً مَوْعُودَةً لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَقُرْبَةً وَوَصْلَةً لِلَّهِ الْأَعَزِّ الْأَجَلِّ الْأَكْرَمِ فَجَاءَ بِحَمْدِهِ تَعَالَى بِلَطَائِفَ دِيَانِيَّةٍ وَمَعَارِفَ نَبَوِيَّةٍ فِي قَوَاعِدَ فَاخِرَةٍ وَأُصُولٍ بَاهِرَةٍ مَعَ زِيَادَاتٍ جَلِيلَةٍ وَتَوْضِيحَاتٍ جَمِيلَةٍ وَتَلْوِيحَاتٍ بَاهِرَةٍ وَتَصْرِيحَاتٍ ظَاهِرَةٍ وَتَحْقِيقَاتٍ عَمِيقَةٍ وَتَدْقِيقَاتٍ أَنِيقَةٍ وَتَقَيُّحَاتٍ بَهِيَّةٍ وَتَرْشِيحَاتٍ عَلِيَّةٍ وَلَطَائِفَ مَزِيَّةٍ وَفَوَائِدَ شَهِيَّةٍ وَفَرَائِدَ وَافِيَةٍ مِنْ كُتُبٍ مُعْتَبَرَةٍ وَزُبُرٍ مُعْتَمَدَةٍ، وَمِنْ أَسْفَارِ الْأَنْبِيَاءِ وَأَنْفَاسِ الْأَوْلِيَاءِ وَكُنُوزِ الْعُلَمَاءِ وَخَزَائِنِ الْحُكَمَاءِ وَأَبْكَارِ أَفْكَارِ

<<  <  ج: ص:  >  >>