مِنْ لَوَازِمِ الصَّلَاحِ فَكَيْفَ يَزْدَرِي بِهِمْ أَهْلُ الدُّنْيَا وَهُمْ يُحِبُّونَ الصُّلَحَاءَ قُلْت ذَلِكَ مُخْتَلِفٌ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ وَالْأَشْخَاصِ وَالْعَادَاتِ (وَلَوْ ` ` لَبِسَ الْفَاخِرَةَ رَدَّتْهُ أَهْلُ الدِّينِ) لَا يَقْبَلُونَهُ؛ لِأَنَّ زِيَّ أَهْلِ الدُّنْيَا مَبْغُوضٌ عِنْدَهُمْ لِنَحْوِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ الشَّيْطَانَ يُحِبُّ الْحُمْرَةَ فَإِيَّاكُمْ وَالْحُمْرَةَ» وَكُلُّ ثَوْبٍ ذِي شُهْرَةٍ كَمَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ فَسَّرَ الشُّهْرَةَ بِمَزِيدِ الزِّينَةِ وَالنُّعُومَةِ أَوْ مَزِيدِ الْخُشُونَةِ وَالرَّثَاثَةِ بِهَا (وَلَا يُعْلَمُ) عِنْدَهُمْ (زُهْدُهُ وَصَلَاحُهُ) وَمُرَادُهُ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا وَمَقْبُولًا عِنْدَ الْفَرِيقَيْنِ.
(فَيَطْلُبُونَ الْأَصْوَافَ) جَمْعُ صُوفٍ (الرَّقِيقَةَ) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ الرَّفِيعَةَ بِالْفَاءِ فَالْعَيْنِ (وَالْأَكْسِيَةَ) جَمْعُ كِسَاءٍ ثَوْبٌ مَعْمُولٌ أَيْضًا مِنْ الشَّعْرِ (الرَّقِيقَةَ) قِيلَ عَنْ الْمَوَاهِبِ بِقَافَيْنِ فِيهِ وَفِيمَا قَبْلَهُ أَوْ بِفَاءٍ فَمُهْمَلَةٍ أَوْ أَحَدُهُمَا فِي أَحَدِ ذَيْنِك وَالْآخَرُ فِي الْآخَرِ (مِمَّا قِيمَتُهَا قِيمَةُ ثِيَابِ الْأَغْنِيَاءِ) لِكَوْنِهَا ذَاتَ قِيمَةٍ كَثِيرَةٍ (وَهَيْئَتُهَا هَيْئَةُ ثِيَابِ الصُّلَحَاءِ) لِكَوْنِهَا مِنْ الشَّعْرِ وَالصُّوفِ (فَيَلْتَمِسُونَ الْقَبُولَ عِنْدَ الْفَرِيقَيْنِ) أَيْ أَهْلِ الدُّنْيَا وَأَهْلِ الصَّلَاحِ لَعَلَّ ذَلِكَ مِنْ حَمَاقَتِهِ وَقِلَّةِ تَدَبُّرِهِ فَإِنَّ أَهْلَ الصَّلَاحِ تَرِدُ مِنْ قِيمَةِ ثَوْبِهِ كَذَا وَإِنَّ هَيْئَتَهُ مُوَافِقَةٌ لَهُمْ (وَلَوْ كُلِّفُوا) بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ (لُبْسَ) ثَوْبٍ (خَشِنٍ أَوْ وَسِخٍ لَكَانَ عِنْدَهُمْ كَالذَّبْحِ خَوْفًا مِنْ السُّقُوطِ مِنْ أَعْيُنِ الْمُلُوكِ وَالْأَغْنِيَاءِ وَلَوْ كُلِّفُوا بِلُبْسِ مَا يَلْبَسُهُ الْأَغْنِيَاءُ لَعَظُمَ عَلَيْهِمْ) أَيْ صَعُبَ وَثَقُلَ عَلَيْهِمْ (خَوْفًا مِنْ أَنْ يُقَالَ رَغِبُوا فِي الدُّنْيَا) مَالُوا إلَيْهَا (وَأَنْ لَا يُعْلَمَ) أَيْ وَخَوْفًا أَنْ لَا يُعْلَمَ (أَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الدِّينِ وَالصَّلَاحِ وَالزُّهْدِ) وَغَرَضُهُمْ كَوْنُهُمْ مَقْبُولِينَ عِنْدَهُمْ وَمَعْدُودِينَ مِنْهُمْ الظَّاهِرُ أَنَّ كُلَّ ذَلِكَ عِنْدَ اخْتِلَاطِهِمْ بِالْفَرِيقَيْنِ وَاعْلَمْ أَنَّ كُلَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ قَبِيلِ سُوءِ الظَّنِّ بَلْ الْمَقْصُودُ إعْلَامُ كَوْنِهِ رِيَاءً فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ كُلًّا يَعْرِفُ مَا فِي نَفْسِهِ هَذَا رِيَاءُ الْعِبَادِ وَالزُّهَّادِ (وَرِيَاءُ أَهْلِ الدُّنْيَا) فِي الزِّيِّ (بِالثِّيَابِ النَّفِيسَةِ) كَثِيرَةِ الْقِيمَةِ (وَالْمَرَاكِبِ) مَا يُرْكَبُ عَلَيْهِ كَالْفَرَسِ (الرَّفِيعَةِ) عَلِيَّةِ الْقَدْرِ غَالِيَةِ الْقِيمَةِ.
(وَالْمَسَاكِنِ) جَمْعُ مَسْكَنٍ كَالْبُيُوتِ (الْوَاسِعَةِ) لِيُعَظِّمَهُمْ بِسَبَبِ ذَلِكَ الْمُلُوكُ وَالْأَغْنِيَاءُ وَتَهَابُهُمْ الْفُقَرَاءُ وَالْمَسَاكِينُ (يَلْبَسُونَ) مَعَ ذَلِكَ (فِي بُيُوتِهِمْ الثِّيَابَ الْخَشِنَةَ وَلَا يَخْرُجُونَ بِهَا) إلَى النَّاسِ خَوْفًا مِنْ احْتِقَارِهِمْ وَحَمْلِهِمْ عَلَى الْخِسَّةِ وَالدَّنَاءَةِ فَإِنْ قِيلَ قَدْ صَحَّ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ كَانَ لَهُ بُرْدٌ وَفِي رِوَايَةٍ أَخْضَرُ يَلْبَسُهُ فِي الْعِيدَيْنِ وَالْجُمُعَةِ قُلْنَا ذَلِكَ إنَّمَا هُوَ لِتَعْظِيمِ تِلْكَ الْأَوْقَاتِ لَا لِتَحْسِينِ مَنْظَرِ النَّاسِ أَوْ لِتَعْظِيمِ الْمَلَائِكَةِ الْحَاضِرِينَ فِي تِلْكَ الْأَوْقَاتِ فَإِنْ قِيلَ قَدْ صَحَّ أَيْضًا أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَتَجَمَّلُ لِلْوُفُودِ أَيْضًا قُلْنَا قَالَ الْغَزَالِيُّ كَانَ هَذَا مِنْهُ عِبَادَةً؛ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِدَعْوَةِ الْخَلْقِ وَتَرْغِيبِهِمْ فِي الِاتِّبَاعِ وَاسْتِمَالَةِ قُلُوبِهِمْ وَلَوْ سَقَطَ مِنْ أَعْيُنِهِمْ لَمْ يَرْغَبُوا فِي اتِّبَاعِهِ فَإِنَّ أَعْيُنَ الْعَوَامّ تَمْتَدُّ إلَى الظَّاهِرِ دُونَ السَّرَائِرِ وَلِهَذَا سُنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَزِيدَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ حُسْنَ الْهَيْئَةِ وَاللِّبَاسِ وَيَتَعَمَّمُ وَيَرْتَدِي وَأَيَّدَهُ ابْنُ حَجَرٍ بِخَبَرِ الطَّبَرَانِيِّ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - وَعَنْ أَبَوَيْهَا «كَانَ لَهُ ثَوْبَانِ يَلْبَسُهُمَا فِي الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ» وَفِي شَرْحِ الْأَحْكَامِ فَإِذَا انْصَرَفَ طَوَيْنَاهُمَا إلَى مِثْلِهِ.
(تَنْبِيهٌ) : ذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ أَنَّ طُولَ رِدَائِهِ سِتَّةُ أَذْرُعٍ فِي عَرْضِ ثَلَاثَةٍ وَطُولَ إزَارِهِ أَرْبَعَةُ أَذْرُعٍ وَشِبْرَانِ، وَكَانَ يَلْبَسُهُمَا فِي الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ كُلُّهُ مِنْ الْمُنَاوِيِّ.
(وَالثَّالِثُ) مِمَّا بِهِ الرِّيَاءُ (الْقَوْلُ كَالْوَعْظِ) لِلنَّاسِ بِتَرْغِيبِ مَا يَنْفَعُهُمْ وَتَنْفِيرِ مَا يَضُرُّهُمْ (وَالنُّطْقِ بِالْحِكْمَةِ) .
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute