للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إرَادَةِ اكْتِسَابِ الصَّالِحَاتِ فِي الزَّمَانِ الْمُتَأَخِّرِ؛ وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ الْأَمَلُ مَذْمُومٌ إلَّا لِلْعُلَمَاءِ فَلَوْلَاهُ مَا صَنَّفُوا، كَمَا فِي فَيْضِ الْقَدِيرِ فَالْقَوْلُ إنِّي أَعِيشُ بَعْدَ نَفُسٍ ثَانٍ مَثَلًا بِلَا إنْ شَاءَ اللَّهُ أَمَلٌ، وَبِهِ إرَادَةُ الْحَيَاةِ إلَى الْوَقْتِ الثَّانِي لِكَسْبِ الصَّلَاحِ لَيْسَ بِأَمَلٍ أَيْضًا فَافْهَمْ.

(وَغَوَائِلُهُ) مَفَاسِدُهُ وَمُهْلِكَاتُهُ (أَرْبَعَةٌ) الْأَوْلَى أَرْبَعٌ: الْأَوَّلُ (الْكَسَلُ) أَيْ تَرْكُ الْعَمَلِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ (فِي الطَّاعَةِ) بِالتَّثْقِيلِ مِنْ الْفَرَائِضِ وَالْوَاجِبَاتِ وَالتَّقَاعُدِ عَنْ السُّنَنِ وَالْمُسْتَحَبَّاتِ وَالتَّكَرُّهِ فِي اجْتِنَابِ الْمُحَرَّمَاتِ وَالْمَكْرُوهَاتِ (وَتَأْخِيرِهَا) لِأَمَلِ إدْرَاكِ زَمَنٍ يُوقِعُهَا فِيهِ بَعْدُ، فَتَخْرُجُ عَنْ وَقْتِهَا الْمُطْلَقِ أَوْ الْمُسْتَحَبِّ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُرَادَ مِنْ التَّأْخِيرِ التَّرْكُ بِتَسْوِيفِ الْقَضَاءِ فَيَقْرَبُ أَنْ يَكُونَ مِنْ قَبِيلِ الْعَطْفِ الْمَعْلُولِ عَلَى الْعِلَّةِ؛ إذْ التَّأْخِيرُ مُتَسَبِّبٌ عَنْ الْكَسَلِ وَحُرْمَةُ الدَّاعِي إلَى الشَّيْءِ كَحُرْمَةِ نَفْسِ الشَّيْءِ، وَلَا يَخْفَى رُتْبَةُ مُضِرَّاتِ الْكَسَلِ فِي الْعِبَادَاتِ بِالتَّأْخِيرِ أَوْ التَّرْكِ.

(وَ) الثَّانِي (تَسْوِيفُ التَّوْبَةِ) تَأْخِيرُهَا؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُؤَخِّرُهَا عَلَى رَجَاءِ إدْرَاكِ الْوَقْتِ الْمُتَرَاخِي فِي اعْتِقَادِهِ بِأَنْ يَقُولَ سَوْفَ أَتُوبُ وَفِي أَيَّامِنَا سَعَةٌ وَأَنَا شَابٌّ وَأَنَا قَادِرٌ عَلَيْهَا مَتَى أَرَدْت (وَتَرْكُهَا) أَيْ التَّوْبَةِ رَأْسًا وَضَرَرُ ذَلِكَ أَيْضًا كَمَا تَرَى وَقَدْ رُوِيَ «هَلَكَ الْمُسَوِّفُونَ» .

(وَ) الثَّالِثُ (قَسْوَةُ الْقَلْبِ) بِأَنْ لَا يَتَأَثَّرَ بِالْمَوَاعِظِ وَالزَّوَاجِرِ (بِعَدَمِ ذِكْرِ الْمَوْتِ) وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ «أَكْثِرُوا ذِكْرَ هَاذِمِ اللَّذَّاتِ» ، الْحَدِيثَ. قَالَ فِي شَرْحِهِ الْمُنَاوِيُّ عَنْ الْعَسْكَرِيِّ: لَوْ فَكَّرَ الْبُلَغَاءُ فِي قَوْلِ الْمُصْطَفَى - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَلِكَ لَعَلِمُوا أَنَّهُ أَتَى بِهَذَا الْقَلِيلِ عَلَى كُلِّ مَا قِيلَ فِي ذِكْرِ الْمَوْتِ وَوُصِفَ بِهِ نَظْمًا وَنَثْرًا؛ وَلِهَذَا كَانَ عِيسَى - عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إذَا ذُكِرَ عِنْدَهُ الْمَوْتُ يَقْطُرُ جِلْدُهُ

وَقِيلَ: لَا يَدْخُلُ ذِكْرُ الْمَوْتِ بَيْتًا إلَّا رَضِيَ أَهْلُهُ بِمَا قُسِمَ لَهُمْ وَقَالَ أَبُو حَمْزَةَ: مَنْ أَكْثَرَ ذِكْرَ الْمَوْتِ حُبِّبَ إلَيْهِ كُلُّ بَاقٍ وَبُغِّضَ إلَيْهِ كُلُّ فَانٍ وَقَالَ فِي شَرْحِهِ: لِأَنَّ نُورَ التَّوْحِيدِ فِي الْقَلْبِ وَظُلْمَةَ الشَّهْوَةِ فِي الصَّدْرِ فَإِذَا أَكْثَرَ ذِكْرَ الْمَوْتِ بِقَلْبِهِ انْقَشَعَتْ الظُّلْمَةُ وَاسْتَنَارَ الصَّدْرُ بِنُورِ الْيَقِينِ.

(تَنْبِيهٌ)

أَخَذَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ هَذَا الْحَدِيثَ وَقَالَ:

مَاذَا تَقُولُ وَلَيْسَ عِنْدَك حُجَّةٌ ... لَوْ قَدْ أَتَاك مُنَغِّصُ اللَّذَّاتِ

مَاذَا تَقُولُ إذَا حَلَلْت مَحَلَّةً ... لَيْسَ الثِّقَاتُ بِأَهْلِهَا بِثِقَاتِ

وَقَالَ الْآخَرُ

اُذْكُرْ الْمَوْتَ هَاذِمَ اللَّذَّاتِ ... وَتَجَهَّزْ لِمَصْرَعٍ سَوْفَ يَاتِي

قَالَ مَعْبَدٌ الْجُهَنِيُّ: نَعَمْ مَصْلَحَةُ الْقَلْبِ ذِكْرُ الْمَوْتِ، يَطْرُدُ فُضُولَ الْأَمَلِ، وَيَكُفُّ غَرَبَ التَّمَنِّي وَيُهَوِّنُ الْمَصَائِبَ، وَيَحُولُ بَيْنَ الْقَلْبِ وَالطُّغْيَانِ وَقَالَ الْحُكَمَاءُ: مَنْ ذَكَرَ الْمَنِيَّةَ نَسِيَ أُمْنِيَةً وَقَالَ التَّيْمِيُّ: شَيْئَانِ قَطَعَا عَنِّي لَذَّةَ النَّوْمِ: ذِكْرُ الْمَوْتِ وَالْوُقُوفُ بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَكَانَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَجْمَعُ الْفُقَهَاءَ فَيَتَذَاكَرُونَ الْمَوْتَ وَالْقِيَامَةَ فَيَبْكُونَ حَتَّى كَأَنَّ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ جِنَازَةً.

وَكَانَ الثَّوْرِيُّ إذَا ذُكِرَ الْمَوْتُ لَا يُنْتَفَعُ بِهِ أَيَّامًا، فَإِنْ سُئِلَ عَنْ شَيْءٍ قَالَ: لَا أَدْرِي لَا أَدْرِي، وَقَالَ اللَّفَّافُ: مَنْ أَكْثَرَ ذِكْرَ الْمَوْتِ أُكْرِمَ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: تَعْجِيلِ التَّوْبَةِ وَقَنَاعَةِ الْقَلْبِ وَنَشَاطِ الْعِبَادَةِ، وَمَنْ نَسِيَهُ عُوقِبَ بِثَلَاثٍ: تَسْوِيفِ التَّوْبَةِ وَتَرْكِ الرِّضَا بِالْكَفَافِ وَالتَّكَاسُلِ فِي الْعِبَادَةِ، فَتَفَكَّرْ يَا مَغْرُورُ فِي الْمَوْتِ وَسَكْرَتِهِ وَصُعُوبَةِ كَأْسِهِ وَمَرَارَتِهِ، فَيَا لِلْمَوْتِ مِنْ وَعْدٍ مَا أَصْدَقَهُ وَمِنْ حَاكِمٍ مَا أَعْدَلَهُ، فَكَفَى بِالْمَوْتِ مُفْزِعًا لِلْقُلُوبِ، وَمُبْكِيًا لِلْعُيُونِ، وَمُفَرِّقًا لِلْجَمَاعَاتِ وَهَاذِمًا لِلذَّاتِ، وَقَاطِعًا لِلْأُمْنِيَاتِ وَتَفْصِيلُهُ فِي الْمُنَاوِيِّ.

وَعَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَوْ أَنَّ الْبَهَائِمَ تَعْلَمُ مِنْ الْمَوْتِ مَا تَعْلَمُونَ مَا أَكَلْتُمْ مِنْهَا سَمِينًا»

وَقَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - وَعَنْ أَبَوَيْهَا «يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلْ يُحْشَرُ مَعَ الشُّهَدَاءِ أَحَدٌ؟ قَالَ: نَعَمْ مَنْ يَذْكُرُ الْمَوْتَ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ عِشْرِينَ مَرَّةً» . وَفِي ذِكْرِهِ الْمَوْتِ مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ: مِنْهَا تَبْغِيضُ الدُّنْيَا الَّذِي هُوَ رَأْسُ كُلِّ حَسَنَةٍ كَمَا أَنَّ حُبَّهَا رَأْسُ كُلِّ خَطِيئَةٍ

<<  <  ج: ص:  >  >>