للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

«قَصِّرُوا الْأَمَلَ» فَإِنَّ طُولَ الْأَمَلِ يَتَوَلَّدُ مِنْهُ حُبُّ الدُّنْيَا الَّذِي هُوَ رَأْسُ كُلِّ خَطِيئَةٍ قَالَ فِي الرِّسَالَةِ الْقُشَيْرِيَّةِ: وَمِنْ شَأْنِ الْمُرِيدِ قِصَرُ الْأَمَلِ فَإِنَّ الْفَقِيرَ ابْنُ وَقْتِهِ فَإِذَا كَانَ لَهُ تَدْبِيرٌ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَتَطَلُّعٌ لِغَيْرِ مَا هُوَ فِيهِ مِنْ الْوَقْتِ وَأَمَلٌ فِيمَا يَسْتَأْنِفُهُ لَا يَجِيءُ مِنْهُ شَيْءٌ «وَاجْعَلُوا آجَالَكُمْ» أَوْقَاتَ مَوْتِكُمْ «بَيْنَ أَبْصَارِكُمْ» لِئَلَّا تَغْفُلُوا عَنْهَا وَتَشْتَغِلُوا بِالدُّنْيَا «وَاسْتَحْيُوا مِنْ اللَّهِ - تَعَالَى - حَقَّ الْحَيَاءِ» لِئَلَّا تَتَعَمَّقُوا فِي مُشْتَهَيَاتِ النَّفْسِ وَأَذْوَاقِ الْهَوَى، كَمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «قَالَ ذَاتَ يَوْمٍ لِأَصْحَابِهِ: اسْتَحْيُوا مِنْ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ، قَالُوا: إنَّا نَسْتَحْيِي مِنْ اللَّهِ يَا نَبِيَّ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، قَالَ: لَيْسَ ذَلِكَ لَكِنْ مَنْ اسْتَحْيَا مِنْ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ فَلْيَحْفَظْ الرَّأْسَ وَمَا وَعَى أَيْ جَمَعَهُ مِنْ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَاللِّسَانِ وَلْيَحْفَظْ الْبَطْنَ مِنْ الْحَرَامِ وَمَا حَوَى أَيْ جَمَعَهُ الْبَطْنُ مِنْ الْفَرْجِ وَالْقَلْبِ وَالْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ وَلْيَذْكُرْ الْمَوْتَ وَالْبِلَى وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ تَرَكَ زِينَةَ الدُّنْيَا فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ اسْتَحْيَا مِنْ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ» قَالَ الْمُنَاوِيُّ فِي شَرْحِ هَذَا الْحَدِيثِ عَنْ الطِّيبِيِّ: فَمَنْ أَهْمَلَ مِنْ جَمِيعِ ذَلِكَ شَيْئًا لَمْ يَخْرُجْ مِنْ عُهْدَةِ الِاسْتِحْيَاءِ وَظَهَرَ مِنْ هَذَا أَنَّ جِبِلَّةَ الْإِنْسَانِ وَخِلْقَتَهُ مِنْ رَأْسِهِ إلَى قَدَمِهِ ظَاهِرِهِ وَبَاطِنِهِ مَعْدِنُ الْعَيْبِ وَمَكَانُ الْمُحَارَبَةِ فَحَقُّ الْحَيَاءِ أَنْ يُسْتَحْيَا مِنْهُ وَيَصُونَهَا عَمَّا يُعَابُ فِيهَا، وَأَصْلُ ذَلِكَ وَرَأْسُهُ تَرْكُ الْمَرْءِ مَا لَا يَعْنِيهِ فِي الْإِسْلَامِ وَشَغْلُهُ فِيمَا يَعْنِيهِ عَلَيْهِ، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ أَوْرَثَهُ الِاسْتِحْيَاءَ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى.

(وَلِلْحَيَاءِ مَرَاتِبُ) أَعْلَاهَا الِاسْتِحْيَاءُ مِنْ اللَّهِ - تَعَالَى - ظَاهِرًا وَبَاطِنًا وَهُوَ مَقَامُ الْمُرَاقَبَةِ الْمُوصِلُ إلَى مَقَامِ الْمُشَاهَدَةِ.

قَالَ فِي الْمَجْمُوعِ عَنْ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ يُسْتَحَبُّ لِكُلِّ صَحِيحٍ وَمَرِيضٍ الْإِكْثَارُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ بِحَيْثُ يَصِيرُ نُصْبَ عَيْنِهِ وَالْمَرِيضُ أَوْلَى

ثُمَّ أَرَادَ تَفْصِيلَ حُكْمِ الْأَمَلِ (فَالْأَمَلُ إنْ كَانَ لِلتَّلَذُّذِ بِالْمُحَرَّمَاتِ) كَظُلْمِ الْعِبَادِ وَسَائِرِ الْمُحَرَّمَاتِ (فَحَرَامٌ) لِأَنَّ لِلْوَسَائِلِ حُكْمَ الْمَقَاصِدِ وَأَنَّ اعْتِبَارَ الْأُمُورِ بِمَقَاصِدِهَا (وَإِلَّا) كَالتَّلَذُّذِ بِالْمُبَاحَاتِ وَإِتْمَامِ عَمَلِ خَيْرٍ مَثَلًا (فَلَيْسَ بِحَرَامٍ) لِعَدَمِ آلِيَّتِهِ لِأَمْرٍ مُحَرَّمٍ (وَلَكِنَّهُ مَذْمُومٌ جِدًّا) قَطْعًا أَوْ قَوِيًّا (وَلَوْ كَانَ لِتَكْثِيرِ الطَّاعَاتِ) كَالتَّصَدُّقِ وَالصَّرْفِ إلَى وُجُوهِ الْبِرِّ وَطَرِيقِ الْخَيْرِ كَالصَّدَقَاتِ الْجَارِيَةِ نَحْوِ بِنَاءِ الْمَسَاجِدِ وَالْمَدَارِسِ (لِلْآفَاتِ السَّابِقَةِ) فِي أَوَائِلِ بَحْثِ الْأَمَلِ نَحْوُ الْكَسَلِ فِي الطَّاعَةِ وَتَأْخِيرِهَا وَتَسْوِيفِ التَّوْبَةِ وَنَحْوِهَا قَالَ فِي الْمِنْهَاجِ الْأَوَّلُ أَمَلُ الْعَامَّةِ وَهَذَا الثَّانِي أَمَلُ الْخَاصَّةِ، لَكِنْ فِيهِ خَطَرٌ لِاحْتِمَالِ خَطَرٍ فِيهِ أَوْ فِي إتْمَامِهِ يُنَافِي الصَّلَاحَ فَيَنْبَغِي أَنْ يُقَيَّدَ بِالِاسْتِثْنَاءِ أَوْ شَرْطِ الصَّلَاحِ (وَلِأَنَّهُ) أَيْ الْأَمَلَ (يَسْتَلْزِمُ الطَّمَعَ الْمَذْمُومَ) طَمَعَ الدُّنْيَا وَشَهَوَاتِهَا بِخِلَافِ طَمَعِ الدِّينِ

(وَهُوَ) أَيْ الطَّمَعُ الْمَذْمُومُ (إرَادَةُ الْحَرَامِ) سَوَاءً كَانَ مِنْ اللَّهِ - تَعَالَى - أَوْ مِنْ النَّاسِ وَلَكِنْ الثَّانِي أَقْبَحُ مِنْ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ ذُلٌّ حَرَامٌ (الْمُلِذِّ) الْمُوقِعِ فِي اللَّذَّةِ الْعَاجِلَةِ الْفَانِيَةِ الظُّلْمَانِيَّةِ مِنْ مُيُولَاتِ إمَارَةِ النَّفْسِ وَمِنْ التَّحْرِيكَاتِ الشَّيْطَانِيَّةِ (أَوْ) إرَادَةُ (الشَّيْءِ الْمُخَاطَرِ) لَا يُؤْمَنُ مِنْ عُرُوضِ خَطَرٍ (أَعْنِي) بِالْمُخَاطَرِ (النَّوَافِلَ) فَلَيْسَ لِلْعَبْدِ إذَا ابْتَدَأَ فِي صَلَاةٍ أَوْ صَوْمٍ أَوْ غَيْرِهِ أَنْ يَحْكُمَ بِأَنْ يُتِمَّهُ إذْ هُوَ غَيْبٌ وَلَا أَنْ يَقْصِدَ ذَلِكَ قَطْعًا؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا لَا يَكُونُ لَهُ فِيهِ صَلَاحٌ بَلْ يُقَيَّدُ ذَلِكَ بِالِاسْتِثْنَاءِ أَوْ شَرْطِ الصَّلَاحِ فَيَخْلُصُ مِنْ غَيْبِ الْأَمَلِ قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا} [الكهف: ٢٣] {إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف: ٢٤] .

<<  <  ج: ص:  >  >>