وَلِتَأْكِيدِ الْحُكْمِ لِكَمَالِ الْعِنَايَةِ أَيْ الذِّكْرِ الْمُحْكَمِ الْمَمْنُوعِ مِنْ الْبَاطِلِ وَالنَّسْخِ وَمِنْ تَطَرُّقِ الْخَلَلِ أَوْ الْحَاكِمِ أَيْ الْمَانِعِ عَنْ الْفَسَادِ وَالتَّحْرِيفِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ «وَهُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ» أَيْ الطَّرِيقُ السَّوِيُّ أَيْ طَرِيقُ الْحَقِّ أَوْ مِلَّةُ الْإِسْلَامِ.
كَمَا فِي الْبَيْضَاوِيِّ «وَهُوَ الَّذِي لَا يَزِيغُ» لَا يَمِيلُ «بِهِ الْأَهْوَاءُ» الْبَاءُ لِلتَّعَدِّيَةِ أَيْ لَا يَمِيلُ بِهِ الْبَطَلَةُ أَوْ أَهْلُ الْأَهْوَاءِ وَالْفِرَقُ الضَّالَّةُ عَنْ الْحَقِّ إلَى غَيْرِ الْحَقِّ وَقَيْدُ الْبَاءِ لِلسَّبَبِيَّةِ وَتَكَلُّفٌ فِي تَفْسِيرِ الْأَهْوَاءِ بِإِرَادَةِ النَّفْسِ بِمَعْنَى إرَادَةِ النُّفُوسِ وَآرَائِهَا مِنْ جَمِيعِ الْخَلْقِ لَا تَزِيغُ بِسَبَبِ اتِّبَاعِهِ عَنْ الْحَقِّ «وَلَا تَلْتَبِسُ بِهِ الْأَلْسِنَةُ» يَعْنِي لَا يُشْبِهُ وَلَا يُشْبِهُهُ كَلَامُ أَحَدٍ لِإِعْجَازِهِ وَلَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى تَغْيِيرِهِ وَتَصَرُّفٍ فِيهِ بِزِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ سَوَاءً فِي جَوَاهِرِهِ أَوْ فِي أَوْصَافِهِ لِغَايَةِ ظُهُورِهِ وَوُضُوحِهِ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: ٩]- «وَلَا يَشْبَعُ مِنْهُ الْعُلَمَاءُ» قِيلَ لِأَنَّهُ بَحْرُ الْمَعَانِي فَكُلُّ ظَمَأٍ يُطْلَبُ رِيُّهُ مِنْهُ وَفِيهِ غِذَاءُ الْعُلَمَاءِ وَتَرْبِيَةُ كَمَالِهِمْ الرُّوحَانِيِّ وَقِيلَ هُمْ الَّذِينَ عَرَفُوهُ تَعَالَى بِجَلَالِ ذَاتِهِ وَكَمَالِ صِفَاتِهِ وَقِيلَ أَيْ الْقُرْآنُ لَا يَشْبَعُ مِنْهُ الْعُلَمَاءُ لِكَمَالِ لَذَّتِهِ وَنِهَايَةِ حَلَاوَتِهِ وَلِمَا فِيهِ مِنْ الْأَسْرَارِ الْعَجِيبَةِ وَالْبَدَائِعِ الْغَرِيبَةِ وَالْأَسَالِيبِ الْمُسْتَحْسَنَةِ «وَلَا يَخْلَقُ» مِنْ الْبِلَى «مِنْ كَثْرَةِ التَّكْرَارِ» مِنْ تَكْرِيرِ تِلَاوَتِهِ وَمُطَالَعَتِهِ وَكَثْرَةِ مُسْتَعْمَلِيهِ وَمُسْتَمِعِيهِ بَلْ كُلَّمَا ازْدَادَ تَكْرِيرُهُ يَزْدَادُ حُسْنُهُ وَبَهْجَتُهُ «وَلَا تَنْقَضِي» أَيْ تَنْتَهِي وَتَنْقَطِعُ «عَجَائِبُهُ» مِنْ الْعُلُومِ الْغَرِيبَةِ وَالْأَسْرَارِ الْعَجِيبَةِ وَالدَّقَائِقِ اللَّطِيفَةِ لِعَدَمِ انْتِهَائِهَا فِي حَدٍّ.
«هُوَ الَّذِي لَمْ تَنْتَهِ الْجِنُّ» أَيْ لَمْ تَعْرِضْ الْجِنُّ عَنْ الْإِيمَانِ بِهِ «إذْ سَمِعَتْهُ» أَيْ وَقْتَ سَمَاعِ الْجِنِّ الْقُرْآنَ مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قِيلَ عَنْ الْخَازِنِ هَلْ رَأَى - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْجِنَّ نَعَمْ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَلَا فِي رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ.
«قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ مَا قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْجِنِّ وَلَا رَآهُمْ انْطَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ عَامِدِينَ إلَى سُوقِ عُكَاظٍ وَقَدْ حِيلَ بَيْنَ الشَّيَاطِينِ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ وَأُرْسِلَتْ عَلَيْهِمْ الشُّهُبُ فَرَجَعَ الشَّيَاطِينُ إلَى قَوْمِهِمْ فَقَالُوا مَا لَكُمْ فَقِيلَ حِيلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ وَأُرْسِلَتْ عَلَيْنَا الشُّهُبُ قَالُوا وَمَا ذَاكَ إلَّا مِنْ نَبِيٍّ قَدْ حَدَّثَ فَاضْرِبُوا مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا فَانْظُرُوا مَا هَذَا الَّذِي حَالَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ فَمَرَّ النَّفَرُ الَّذِينَ أَخَذُوا نَحْوَ تِهَامَةَ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ بِنَخْلَةٍ عَامِدًا إلَى سُوقِ عُكَاظٍ وَهُوَ يُصَلِّي بِأَصْحَابِهِ صَلَاةَ الْفَجْرِ فَلَمَّا سَمِعُوا الْقُرْآنَ اسْتَمَعُوا وَقَالُوا هَذَا الَّذِي حَالَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ فَرَجَعُوا إلَى قَوْمِهِمْ» .
وَعَلَى هَذَا فَهُوَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَعْلَمْ بِاسْتِمَاعِهِمْ وَلَا كَلِمِهِمْ وَإِنَّمَا أَعْلَمَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِمَا أُوحِيَ إلَيْهِ مِنْ قَوْلِهِ {قُلْ أُوحِيَ} [الجن: ١] إلَخْ كَذَا قِيلَ وَنُقِلَ عَنْ تَفْسِيرِ الْوَاحِدِيِّ «عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ إنَّا لَمْ نَرَ الْجِنَّ فِي لَيْلَةِ الْجِنِّ أَنْفُسِهِمْ لَكِنْ أَرَانَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - آثَارَهُمْ وَآثَارَ نِيرَانِهِمْ» .
وَالظَّاهِرُ مِنْهُ رُؤْيَتُهُمْ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَعَنْ الْخَازِنِ «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِإِنْذَارِ الْجِنِّ فَصَرَفَ اللَّهُ تَعَالَى إلَيْهِ نَفَرًا مِنْ الْجِنِّ فَاسْتَتْبَعَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَصْحَابَهُ حِينَ ذَهَابِهِ إلَى الْجِنِّ فَطَفِقُوا ثَمَّ وَثَمَّ فِي الثَّالِثَةِ تَبِعَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ قَالَ فَانْطَلَقْنَا إلَى شِعْبِ الْحُجُونِ وَخَطَّ لِي خَطًّا ثُمَّ أَمَرَنِي أَنْ أَجْلِسَ فِيهِ وَلَا أَخْرُجَ فَانْطَلَقَ فَافْتَتَحَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute