إلَى النَّارِ وَالنَّارُ سَبَبُ خَرَابٍ وَالتُّرَابُ سَبَبُ عِمَارَةٍ يَا لَعِينُ اُسْكُتْ فَلْيَتَنَاظَرْ عُنْصُرُ آدَمَ الَّذِي هُوَ التُّرَابُ مَعَ عُنْصُرِك الَّذِي هُوَ النَّارُ ثُمَّ قَالَتْ النَّارُ يَا تُرَابُ لِي صُورَةٌ صَافِيَةٌ وَسِيرَةٌ مُضِيئَةٌ وَمِنْ خَوَاصِّي أَجْعَلُ اللَّيَالِيَ بِأَنْوَارِي كَالنَّهَارِ وَأَرْفَعُ الظُّلُمَاتِ وَأَجْعَلُ الْأَشْجَارَ وَالْحَشَائِشَ رَمَادًا وَكُنْت مَظْهَرَ تَجَلِّي الْحَقِّ وَدَلِيلَ مَعْرِفَةِ الْهِدَايَةِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا، ثُمَّ قَالَ التُّرَابُ يَا نَارُ صَنِيعُك هُوَ التَّرَفُّعُ وَصَنِيعِي هُوَ التَّوَاضُعُ فَقَرِّرِي حُجَّتَك وَبَاعِثَ تَرَفُّعِك، فَقَالَتْ أَنَا جَوْهَرٌ مُنَوَّرٌ وَمُضِيءٌ وَمَظْهَرُ ظُهُورٍ إنِّي أَنَا اللَّهُ وَمَحَلُّ انْتِقَامِ الْأَعْدَاءِ، فَقَالَ التُّرَابُ يَا نَارُ أَلَمْ تَعْلَمِي أَنَّ الْعِزَّةَ فِي الذِّلَّةِ وَالرَّاحَةَ فِي التَّوَاضُعِ فَأَثَرْت تَحْتَ الْأَقْدَامِ وَأَنَا مُتَحَمِّلٌ أَحْمَالَ الْأَنَامِ وَأَنَا خِزَانَةٌ دَفِينَةُ الْمَلَكُوتِ وَأَنَا كَعْبَةُ طَوَافِ الْخَلَائِقِ وَأَكُونُ تَارَةً خَلِيفَةَ الْمَاءِ الطَّهُورِ.
ثُمَّ قَالَتْ النَّارُ لَا أَقْدِرُ عَلَى مُنَاظَرَتِك مَهْمَا تَرَفَّعْت أَنَا وَأَنْتَ تَتَوَاضَعُ وَلَكِنْ فَلْنَبْحَثْ بِكَلَامٍ مَرَّةً مِنِّي وَمَرَّةً مِنْك، فَقَالَتْ يَا تُرَابُ لِي نُورٌ فَقَالَ لِي شَوْقُ لِقَاءٍ فَقَالَتْ لِي صُعُودٌ إلَى كَرَّةِ النَّارِ فَقَالَ أَنَا أَتَحَمَّلُ الْأَحْمَالَ فِي الِاسْتِقَامَةِ فَقَالَتْ أَجْعَلُ اللَّيَالِيَ كَالنَّهَارِ فَقَالَ أُزَيَّنُ فَوْقِي بِأَنْوَاعِ الْأَزْهَارِ فَقَالَتْ أَنَا مَحَلُّ امْتِحَانِ الْجَوَاهِرِ فَقَالَ أَنَا مَحَلُّ سَتْرِ خَزَائِنِ الدَّفَائِنِ فَقَالَتْ أَنَا أُظْهِرُ الْغِلَّ وَالْغِشَّ فَقَالَ أَنَا أَسْتُرُ الْعُيُوبَ فَقَالَتْ أَنَا أُخْرِجُ الْجَوَاهِرَ مِنْ الْأَحْجَارِ الصُّلْبَةِ فَقَالَ أَنَا أُخْرِجُ الْوَرْدَ الْكَثِيرَ ذَا الرَّوَائِحِ الطَّيِّبَةِ وَالْأَلْوَانِ الْعَجِيبَةِ، فَبِالْآخِرَةِ قَالَ التُّرَابُ أَنَا مَادَّةُ خَلِيقَةِ اللَّهِ وَمَرْقَدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمِحْرَابِ أَهْلِ الْمُنَاجَاةِ وَمَحَلُّ سَجْدَةِ الطَّاعَاتِ لَا غَايَةَ لِفَضَائِلِي وَلَا نِهَايَةَ لِخَصَائِصِي لَكِنْ شَأْنِي السُّكُوتُ تَوَاضُعًا لَوْ لَمْ يَكُنْ لِي أَمْرٌ إلَهِيٌّ لَمْ أَذْكُرْ هَذَا الْقَدْرَ (فَإِذَا سَمِعَ) أَيْ الْمُتَكَبِّرُ (الْحَقَّ مِنْ الْمُتَكَبَّرِ عَلَيْهِ اسْتَنْكَفَ مِنْ قَبُولِهِ) لِكِبْرِهِ (وَتَشَمَّرَ لِجَحْدِهِ) .
قِيلَ وَلِذَلِكَ تَرَى الْمُنَاظِرِينَ فِي مَسَائِلِ الدِّينِ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يُبَاحِثُونَ عَنْ أَسْرَارِ الدِّينِ ثُمَّ إنَّهُمْ يَتَجَاحَدُونَ تَجَاحُدَ الْمُتَكَبِّرِينَ وَمَهْمَا اتَّضَحَ الْحَقُّ عَلَى لِسَانِ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنِفَ الْآخَرُ مِنْ قَبُولِهِ وَتَشَمَّرَ لِجَحْدِهِ وَاحْتَالَ لِدَفْعِهِ بِمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ الْحِيَلِ وَالتَّلْبِيسِ، وَمَا هُوَ إلَّا نَاشِئٌ مِنْ مُشَارَكَةِ إبْلِيسَ (وَيَكْفِيك فِيهِ) أَيْ فِي فُحْشِ الْكِبْرِ (قَوْله تَعَالَى {سَأَصْرِفُ} [الأعراف: ١٤٦] أَمْنَعُ {عَنْ آيَاتِيَ} [الأعراف: ١٤٦] عَنْ فَهْمِ الْحِجَجِ وَالْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ وَأَنْزِعُ عَنْهُمْ فَهْمَ كَلَامِي وَالْعَمَلَ بِمُقْتَضَاهُ {الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ} [الأعراف: ١٤٦] يُظْهِرُونَ الْكِبْرَ {فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الأعراف: ١٤٦] إمَّا صِلَةٌ لِلْكِبْرِ يَتَكَبَّرُونَ بِمَا لَيْسَ بِحَقٍّ وَهُوَ دِينُهُمْ الْبَاطِلُ وَظُلْمُهُمْ الْمُفْرِطُ أَوْ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفِ حَالٍ مِنْ فَاعِلِهِ أَيْ يَتَكَبَّرُونَ مُلْتَبِسِينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَمَّا الْحَقُّ فَكَالْأَرْبَعَةِ السَّابِقَةِ (وَ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ} [الأعراف: ١٠١] بِحَيْثُ لَا يَفْهَمُ الْحَقَّ وَلَا يَتْبَعُهُ بَلْ يَصِيرُ اخْتِيَارُهُ مَسْلُوبًا، وَهَذَا الْجَبْرُ جَائِزٌ بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ بِاخْتِيَارِهِ مُكَافَأَةً لِأَعْمَالِهِ الْخَبِيثَةِ، وَالْمُمْتَنِعُ الْجَبْرُ ابْتِدَاءً كَذَا قِيلَ.
وَالْمُرَادُ بِالطَّبْعِ أَنْ تَحْدُثَ فِي نُفُوسِهِمْ هَيْئَةُ تَمَرُّنِهِمْ عَلَى اسْتِحْبَابِ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي وَاسْتِقْبَاحِ الْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ بِسَبَبِ غَيِّهِمْ وَتَكَبُّرِهِمْ وَإِعْرَاضِهِمْ عَنْ النَّظَرِ الصَّحِيحِ فَتُجْعَلُ قُلُوبُهُمْ بِحَيْثُ لَا يَنْفُذُ فِيهَا الْحَقُّ وَأَسْمَاعُهُمْ تَعَافُ اسْتِمَاعَهُ فَتَصِيرُ كَأَنَّهَا مَطْبُوعَةٌ لَا تَجْتَلِي لَهَا الْآيَاتُ الْمَنْصُوبَةُ فِي الْأَنْفُسِ وَالْآفَاقِ وَلَا طَبْعَ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَإِنَّمَا سُمِّيَ بِهِ عَلَى الِاسْتِعَارَةِ أَوْ مَثَّلَ قُلُوبَهُمْ الْمَؤْوُفَةَ بِأَشْيَاءَ ضُرِبَ حِجَابٌ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الِاسْتِنْفَاعِ بِهَا طَبْعًا {عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} [غافر: ٣٥] مِنْ الْجَبْرِ بِمَعْنَى الْقَهْرِ فَإِذَا خُتِمَ عَلَى الْقَلْبِ بِطَبْعِهِ فَلَا يَكَادُ يَنْفَتِحُ لِمَوْعِظَةِ وَاعِظٍ وَلَا تَلِجُ الْعِبْرَةُ وَالنَّصِيحَةُ {أَبَى} [البقرة: ٣٤] إبْلِيسُ {وَاسْتَكْبَرَ} [البقرة: ٣٤] اسْتَعْظَمَ وَعَدَّ نَفْسَهُ أَكْبَرَ مِنْ آدَمَ {وَكَانَ} [البقرة: ٣٤] صَارَ مِنْ الْكَافِرِينَ أَوْ كَانَ فِي عِلْمِهِ تَعَالَى {مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة: ٣٤] (د) أَبُو دَاوُد
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute