للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قُدِّسَ سِرُّهُ - سُمِّيَتْ الْمَحَبَّةُ لِأَنَّهَا تَمْحُو مِنْ الْقَلْبِ مَا سِوَى الْمَحْبُوبِ وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ هِيَ مَا لَا يَنْقُصُ بِالْجَفَاءِ وَلَا يَزِيدُ بِالْبِرِّ وَقَالَ الْجُنَيْدُ إذَا صَحَّتْ الْمَحَبَّةُ سَقَطَتْ شُرُوطُ الْأَدَبِ

وَقَالَ ابْنُ مَسْرُوقٍ رَأَيْت سَحْنُونًا يَتَكَلَّمُ فِي الْمَحَبَّةِ فَتَكَسَّرَتْ قَنَادِيلُ الْمَسْجِدِ وَقِيلَ جَلَسَ الشِّبْلِيُّ فَدَخَلَ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ فَقَالَ مَنْ أَنْتُمْ قَالُوا: مُحِبُّوك فَأَقْبَلَ يَرْمِيهِمْ بِالْحِجَارَةِ فَفَرُّوا فَقَالَ إنْ ادَّعَيْتُمْ مَحَبَّتِي فَاصْبِرُوا عَلَى بَلَائِي.

وَقِيلَ أَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إلَى عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إنِّي إذَا اطَّلَعْت عَلَى قَلْبِ عَبْدٍ فَلَمْ أَجِدْ فِيهِ حُبَّ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مَلَأْته مِنْ حُبِّي وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ مِثْقَالُ خَرْدَلَةٍ مِنْ الْحُبِّ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ عِبَادَةِ سَبْعِينَ سَنَةً بِلَا حُبٍّ.

وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْكَتَّانِيُّ جَرَتْ مَسْأَلَةٌ فِي الْمَحَبَّةِ بِمَكَّةَ أَيَّامَ الْمَوْسِمِ فَتَكَلَّمَ الشُّيُوخُ فِيهَا وَكَانَ الْجُنَيْدُ أَصْغَرَهُمْ سِنًّا فَسَأَلُوا عَنْهُ فَقَالَ عَبْدٌ ذَاهِبٌ عَنْ نَفْسِهِ مُتَّصِلٌ بِذِكْرِ رَبِّهِ قَائِمٌ بِأَدَاءِ حُقُوقِهِ نَاظِرٌ إلَيْهِ بِقَلْبِهِ أَحْرَقَ قَلْبَهُ أَنْوَارُ هَوِيَّتِهِ وَصَفَا شِرْبُهُ مِنْ وَرْدِ كَأْسِهِ وَانْكَشَفَ لَهُ الْجَبَّارُ مِنْ أَسْتَارِ غَيْبِهِ فَإِنْ تَكَلَّمَ فَبِاَللَّهِ وَإِنْ سَكَنَ فَهُوَ لِلَّهِ وَبِاَللَّهِ وَمَعَ اللَّهِ فَبَكَى الشُّيُوخُ وَقَالُوا مَا عَلَى هَذَا مَزِيدٌ جَبَرَك اللَّهُ يَا تَاجَ الْعَارِفِينَ

وَحُكِيَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّهُ قَالَ رَأَيْت النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمَنَامِ فَقُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ اُعْذُرْنِي فَإِنَّ مَحَبَّةَ اللَّهِ تَعَالَى شَغَلَتْنِي عَنْ مَحَبَّتِك فَقَالَ يَا مُبَارَكُ مَنْ أَحَبَّ اللَّهَ فَقَدْ أَحَبَّنِي.

وَعَنْ أَبِي حَفْصٍ أَكْثَرُ فَسَادِ الْعَارِفِينَ مِنْ ثَلَاثَةٍ فِسْقِ الْعَارِفِينَ وَخِيَانَةِ الْمُحِبِّينَ وَكَذِبِ الْمُرِيدِينَ وَقَالَ أَبُو عُثْمَانَ فِسْقُ الْعَارِفِينَ إطْلَاقُ الطَّرْفِ وَاللِّسَانِ وَالسَّمْعِ إلَى أَسْبَابِ الدُّنْيَا وَمَنَافِعِهَا وَخِيَانَةِ الْمُحِبِّينَ اخْتِيَارُ أَهْوَائِهِمْ عَلَى رِضَا اللَّهِ تَعَالَى فِيمَا يَسْتَقْبِلُهُمْ وَكَذِبِ الْمُرِيدِينَ أَنْ يَكُونَ ذِكْرُ الْخَلْقِ وَرُؤْيَتُهُمْ تَغْلِبُ عَلَى ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَرُؤْيَتِهِ وَالْكُلُّ مِنْ رِسَالَةِ الْقُشَيْرِيِّ {وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران: ٣١] فَيُحْبِبْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ جَوَابُ الْأَمْرِ أَيْ يَرْضَ عَنْكُمْ وَيَكْشِفْ الْحُجُبَ عَنْ قُلُوبِكُمْ بِالتَّجَاوُزِ عَمَّا فَرَّطَ مِنْكُمْ فَيُقَرِّبْكُمْ مِنْ جَنَابِ عِزِّهِ وَيُبَوِّئْكُمْ فِي جِوَارِ قُدْسِهِ عَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ بِالْمَحَبَّةِ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِعَارَةِ أَوْ الْمُقَابَلَةِ كَمَا فِي الْبَيْضَاوِيِّ فَمَنْ ادَّعَى مَحَبَّةَ اللَّهِ وَلَمْ يَتَّبِعْ رَسُولَ اللَّهِ فَهُوَ كَذَّابٌ بِنَصِّ كِتَابِ اللَّهِ {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران: ٣١]

فَحَاصِلُ رَبْطِ الْآيَةِ بِالْمَقْصُودِ الِاعْتِصَامُ بِالسُّنَّةِ تَبَعِيَّةُ الرَّسُولِ، وَتَبَعِيَّتُهُ شَيْءٌ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مَحَبَّةُ اللَّهِ وَمَغْفِرَتُهُ وَكُلُّ مَا شَأْنُهُ كَذَا فَهُوَ وَاجِبٌ فَالِاعْتِصَامُ وَاجِبٌ وَقَوْلُهُ غَفُورٌ فِي مَقَامِ الْعِلَّةِ لِقَوْلِهِ {يَغْفِرْ لَكُمْ} [الأحقاف: ٣١] وَقَوْلُهُ {رَحِيمٌ} [آل عمران: ٣١] لِقَوْلِهِ {يُحْبِبْكُمُ} [آل عمران: ٣١] فَمِنْ قَبِيلِ عَطْفِ الْعِلَّةِ عَلَى الْمَعْلُولِ وَفِي آلِ عِمْرَانَ أَيْضًا {قُلْ} [آل عمران: ٣٢] وَحِينَ نُزُولِ الْآيَةِ الْأُولَى قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ الْمُنَافِقُ لِأَصْحَابِهِ إنَّ مُحَمَّدًا يَجْعَلُ طَاعَتَهُ كَطَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَيَأْمُرُنَا أَنْ نُحِبَّهُ كَمَا أَحَبَّ النَّصَارَى عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ فَأَنْزَلَ {أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ} [آل عمران: ٣٢] أَجْمِعُوا بَيْنَهُمَا فِي الطَّاعَةِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - فَإِنَّ طَاعَتَكُمْ لِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طَاعَتُكُمْ لِي. وَأَمَّا أَنْ تُطِيعُونِي وَتَعْصُوا مُحَمَّدًا فَلَنْ أَقْبَلَ مِنْكُمْ نُقِلَ عَنْ الْخَازِنِ {فَإِنْ تَوَلَّوْا} [آل عمران: ٣٢] أَيْ عَنْ طَاعَتِهِمَا {فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} [آل عمران: ٣٢] لَا يَرْضَى عَنْهُمْ وَلَا يَغْفِرُ لَهُمْ قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ وَإِنَّمَا لَمْ يَقُلْ لَا يُحِبُّهُمْ لِقَصْدِ الْعُمُومِ أَوْ الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ التَّوَلِّيَ كُفْرٌ وَأَنَّ مَحَبَّتَهُ مَخْصُوصَةٌ بِالْمُؤْمِنِينَ

أَقُولُ هَذَا مِنْ قَبِيلِ إقَامَةِ دَلِيلِ التَّالِي مَوْضِعَ التَّالِي إذْ الْمَعْنَى فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاَللَّهُ لَا يُحِبُّهُمْ لِأَنَّ التَّوَلِّيَ كُفْرٌ وَاَللَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ فَمِنْ قَبِيلِ الْمَذْهَبِ الْكَلَامِيِّ الْبَدِيعِيِّ.

وَعَنْ الْخَازِنِ عَنْ، أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كُلُّ أُمَّتِي يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ إلَّا مَنْ أَبَى قَالُوا وَمَنْ أَبَى قَالَ مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الْجَنَّةَ وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ أَبَى» وَفِي آلِ عِمْرَانَ أَيْضًا {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [آل عمران: ١٣٢] لِكَيْ تُرْحَمُوا وَلَا تُعَذَّبُوا.

قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ لَعَلَّ وَعَسَى فِي أَمْثَالِ ذَلِكَ دَلِيلُ عِزَّةِ التَّوَصُّلِ إلَى مَا جُعِلَ خَبَرًا لَهُ فَلَمْ يَكْفِ فِي الرَّحْمَةِ مُجَرَّدُ طَاعَتِهِ تَعَالَى بَلْ مَجْمُوعُهُمَا وَأَيْضًا فِي آلِ عِمْرَانَ {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: ١٦٤] الْمَنُّ إمَّا بِمَعْنَى الْإِحْسَانِ وَالنِّعْمَةِ الْعَظِيمَةِ أَوْ بِمَعْنَى الِامْتِنَانِ أَوْ التَّنْبِيهِ

<<  <  ج: ص:  >  >>