للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

سِيَّمَا مَعَ الْقُدْرَةِ لَا يَخْلُو عَنْ الذَّمِّ.

لَكِنْ يَرِدُ هُنَا إشْكَالٌ أُصُولِيٌّ مِنْ أَنَّ الْمُتَبَادِرَ هُنَا مَا يَعُمُّ تَسْوِيفَ الْفَضَائِلِ لَا تَسْوِيفَ الْوَاجِبَاتِ فَقَطْ، وَالذَّمُّ إنَّمَا يَكُونُ فِي تَرْكِ الْوَاجِبِ إلَّا أَنْ يُرَادَ هُنَا غَيْرُ ذَلِكَ الْمَعْنَى، وَلَوْ مَجَازًا وَيَدُلُّ عَلَى مَذْمُومِيَّتِهِ مَا رُوِيَ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «هَلَكَ الْمُسَوِّفُونَ» (وَضِدُّهُ) أَيْ التَّسْوِيفِ (الْمُسَارَعَةُ وَالْمُبَادَرَةُ) هِيَ الْعَجَلَةُ فِي كُلِّ شَيْءٍ (وَالْمُسَابَقَةُ) إلَى الطَّاعَةِ كَالْأَوَّلِينَ كَأَنَّهُ يُرِيدُ التَّعْرِيفَ بِالضِّدِّ، وَهُوَ عَادَةُ الْمُصَنِّفِ كَثِيرًا قَالُوا الْأَشْيَاءُ تَنْكَشِفُ بِالْأَضْدَادِ؛ وَلِهَذَا عَدَّهُ أَهْلُ الْمِيزَانِ مِنْ الرَّسْمِ النَّاقِصِ (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى) فِي مَدْحِ مَنْ يُسَارِعُ إلَى مُطْلَقِ الْخَيْرَاتِ {وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} [آل عمران: ١١٤] فَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ الْمُسَارَعَةُ مَمْدُوحَةً فَكَانَ ضِدُّهَا، وَهُوَ التَّسْوِيفُ مَذْمُومًا {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [آل عمران: ١٣٣] أَيْ إلَى سَبَبِهَا مِنْ الْخَيْرَاتِ وَالطَّاعَاتِ (الْآيَةَ) أَيْ كَمِّلْ الْآيَةَ أَيْ {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: ١٣٣] لَكِنْ لَا يَخْفَى أَنَّ آخِرَهَا لَيْسَ لَهُ نَفْعٌ مُعْتَدٌّ بِهِ فِي دَلَالَةٍ أَصْلًا بَلْ الدَّلَالَةُ إنَّمَا هِيَ بِحَسَبِ قَوْلِهِ {وَسَارِعُوا} [آل عمران: ١٣٣] ثُمَّ قِيلَ: وَالْأَصْلُ سَارِعُوا إلَى التَّوْبَةِ فَوُضِعَتْ الْمَغْفِرَةُ مَوْضِعَهَا تَطْمِينًا لِقُلُوبِ الْعُصَاةِ وَتَنْشِيطًا لَهُمْ إلَى التَّوْبَةِ.

أَقُولُ لَا يَخْفَى عَلَى هَذَا أَنَّهُ لَا يَكُونُ لَهُ تَقْرِيبٌ ثُمَّ لَا يَخْفَى أَنَّ كَوْنَهَا حُجَّةً فِي الْمَقَامِ مَوْقُوفٌ عَلَى كَوْنِ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ وَهُوَ إنَّمَا يَخْتَصُّ بِالْوَاجِبَاتِ وَالْمَفْرُوضِ فِي الْمَقَامِ كَمَا عَرَفْت هُوَ الْعُمُومُ فَاعْرِفْهُ. (مج) ابْنُ مَاجَهْ (عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ «خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ» فِي الْخِطَابِ الشِّفَاهِيِّ إشَارَةٌ إلَى كَمَالِ عِلْمِهِ بِعِصْيَانِ الْعُصَاةِ قِيلَ، وَإِلَى عِلْمِهِ بِتَوْبَتِهِمْ، وَفِي كَلِمَةِ يَا تَنْبِيهٌ عَلَى بُعْدِهِمْ عَنْ سَاحَةِ قُرْبِهِ تَعَالَى بِعَدَمِ التَّوْبَةِ وَمُبَادَرَةِ الْأَعْمَالِ، وَكَذَا فِي إيثَارِ لَفْظِ النَّاسِ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ يَا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ؛ وَلِذَا قَالَ بَعْضُهُمْ كُلُّ آيَةٍ بِنَحْوِ قَوْلِهِ {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} [البقرة: ٢١] مَكِّيَّةٌ لِغَلَبَةِ الْكُفَّارِ وَكُلُّ آيَةٍ بِنَحْوِ قَوْلِهِ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة: ١٠٤] مَدَنِيَّةٌ لِكَثْرَةِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ، وَقِيلَ الْمُرَادُ بِكُلُّ هُوَ الْكَثْرَةُ لِتَخَلُّفِ ذَلِكَ بِبَعْضِ آيَةٍ «تُوبُوا إلَى اللَّهِ» أَيْ ارْجِعُوا عَنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ إلَى طَاعَتِهِ، وَهُوَ الْمُنَاسِبُ هُنَا دُونَ مَا قِيلَ أَيْ بَادِرُوا إلَى التَّوْبَةِ عَلَى أَنَّ الْمَفْهُومَ مِنْ قَوْلِهِ تُوبُوا هُوَ مُطْلَقُ التَّوْبَةِ لَا مُسَارَعَتُهَا فَإِنَّهُ لَا دَلَالَةَ لِلْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ بِإِحْدَى الدَّلَالَاتِ الثَّلَاثِ كَالْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ وَدُونَ مَا قِيلَ أَيْضًا أَيْ ارْجِعُوا عَنْ ذُنُوبِكُمْ فَتَأَمَّلْ وَأَيْضًا فَانْتَظِرْ فَإِنَّ الظَّاهِرَ مِنْ قَوْلِهِ إلَى اللَّهِ أَيْ إلَى طَاعَةِ اللَّهِ «قَبْلَ أَنْ تَمُوتُوا» .

كَمَا قَالَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ «تُوبُوا قَبْلَ أَنْ تَمُوتُوا فَإِنَّ الْإِنْسَانَ إذَا مَاتَ يَنْقَطِعُ كُلُّ عِلْمِهِ» «وَبَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ» بِلَا تَسْوِيفٍ، وَلَا تَأْخِيرٍ مَتَى أَمْكَنَكُمْ فِعْلُهَا «قَبْلَ أَنْ تُشْغَلُوا» بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ بِمَا يُلْهِيكُمْ عَنْهَا مِنْ الْأَمْرَاضِ وَالْآلَامِ وَالْأَزْوَاجِ وَالْأَوْلَادِ وَبِالْجُمْلَةِ بِكُلِّ مَا يَمْنَعُ بَلْ يُوجِبُ الْكَسَلَ وَالْفُتُورَ «وَصِلُوا» أَمْرٌ مِنْ الْوَصْلِ «الَّذِي بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ رَبِّكُمْ» بِذِكْرِ الْعَهْدِ الَّذِي أُخِذَ مِنْكُمْ فِي عَالَمِ الْمِيثَاقِ «بِكَثْرَةِ ذِكْرِكُمْ لَهُ» تَعَالَى بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ وَالسِّرِّ وَالْجَهْرِ وَالْقِيَامِ وَالْقُعُودِ وَسَائِرِ الْحَالَاتِ إلَى أَنْ تَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ «وَكَثِّرُوا الصَّدَقَةَ» الصِّيغَةُ لِتَكْثِيرِ الْفِعْلِ أَوْ الْمَفْعُولِ بِهِ أَوْ كِلَيْهِمَا «فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ» قِيلَ السِّرُّ فِي النَّوَافِلِ وَالْعَلَانِيَةُ فِي الْفَرَائِضِ عَلَى مَا هُوَ الْأَفْضَلُ فِيهِمَا «تُرْزَقُوا» بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ أَيْ يَرْزُقُكُمْ اللَّهُ تَعَالَى أَوْ يُسَهِّلُ لَكُمْ أَسْبَابَ الرِّزْقِ «وَتُنْصَرُوا» أَيْ يَنْصُرُكُمْ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى أَعْدَائِكُمْ «وَتُجْبَرُوا» مِنْ كَسْرِ الزَّمَانِ وَنَوَائِبِهِ.

(ت عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «هَلْ تَنْتَظِرُونَ»

<<  <  ج: ص:  >  >>