للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

«وَبَاتَ قَائِمًا وَالنَّاسُ نِيَامٌ» أَيْ: صَلَّى بِاللَّيْلِ كَمَا وَقَعَ فِي الْجَامِعِ «وَصَلَّى بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ» .

قَالَ الْمُنَاوِيُّ هَذَا ثَنَاءٌ عَلَى صَلَاةِ اللَّيْلِ وَعِظَمِ فَضْلِهَا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَجَعَلَ الْغُرْفَةَ جَزَاءً لِمَنْ صَلَّى بِاللَّيْلِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا} [الفرقان: ٦٤] فَأَوْمَأَ بِهِ إلَى أَنَّ الْمُتَهَجِّدَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَحَرَّى الْإِخْلَاصَ وَيَجْتَنِبَ الرِّيَاءَ لِأَنَّ الْبَيْتُوتَةَ لِلرَّبِّ لَمْ تُشْرَعْ إلَّا لِإِخْلَاصِ الْعَمَلِ لِلَّهِ.

(حب عَنْ أَبِي ذَرٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «تَبَسُّمُكَ فِي وَجْهِ أَخِيكَ لَكَ صَدَقَةٌ» أَيْ إظْهَارُكَ لَهُ الْبَشَاشَةَ وَالْبِشْرَ إذَا لَقِيتَهُ تُؤْجَرُ عَلَيْهِ كَمَا تُؤْجَرُ عَلَى الصَّدَقَةِ قَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ وَالتَّبَسُّمُ وَالْبِشْرُ مِنْ آثَارِ أَنْوَارِ الْقَلْبِ {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ - ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ} [عبس: ٣٨ - ٣٩] .

قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ وَالْبَشَاشَةُ مِصْيَدَةُ الْمَوَدَّةِ وَالْبِرُّ شَيْءٌ هَيِّنٌ وَجْهٌ طَلِيقٌ وَكَلَامٌ لِينٌ وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى الْعَالِمِ الَّذِي يُصَعِّرُ خَدَّهُ لِلنَّاسِ كَأَنَّهُ مُعْرِضٌ عَنْهُمْ وَعَلَى الْعَابِدِ الَّذِي يَعْبَسُ وَجْهُهُ كَأَنَّهُ مُنَزَّهٌ عَنْ النَّاسِ مُسْتَقْذِرٌ لَهُمْ أَوْ غَضْبَانُ عَلَيْهِمْ قَالَ الْغَزَالِيُّ لَا يَعْلَمُ الْمِسْكِينُ أَنَّ الْوَرَعَ لَيْسَ فِي الْجَبْهَةِ حَتَّى يَغْضَبَ وَلَا فِي الْوَجْهِ حَتَّى يَنْفِرَ وَلَا فِي الْخَدِّ حَتَّى يُصَعِّرَ وَلَا فِي الظَّهْرِ حَتَّى يَنْحَنِيَ وَلَا فِي الذُّلِّ حَتَّى يَنْضَمَّ إنَّمَا الْوَرَعُ فِي الْقَلْبِ آخِرُ الْحَدِيثِ فِي الْجَامِعِ «وَأَمْرُك بِالْمَعْرُوفِ وَنَهْيُك عَنْ الْمُنْكَرِ صَدَقَةٌ وَإِرْشَادُك الرَّجُلَ الضَّالَّ فِي الْأَرْضِ لَك صَدَقَةٌ وَإِمَاطَتُك الْحَجَرَ وَالشَّوْكَ وَالْعَظْمَ عَنْ الطَّرِيقِ لَك صَدَقَةٌ وَإِفْرَاغُك مِنْ دَلْوِكَ فِي دَلْوِ أَخِيك لَك صَدَقَةٌ» .

(دُنْيَا عَنْ الْحَسَنِ) الْبَصْرِيِّ مُرْسَلًا (عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّ مِنْ الصَّدَقَةِ أَنْ تُسَلِّمَ عَلَى النَّاسِ وَأَنْتَ طَلِيقٌ» أَيْ مَسْرُورُ «الْوَجْهِ» لِمَا فِيهِ مِنْ إثْبَاتِ الْوُدِّ الْمَطْلُوبِ فَلَا يَنْبَغِي التَّعَبُّسُ بَلْ يُظْهِرُ الْبَشَاشَةَ وَالْفَرَحَ بِاللِّقَاءِ وَالِاجْتِمَاعِ مِنْ غَيْرِ مُدَاهَنَةٍ قَالَ فِي الْجَامِعِ عَلَى رِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - «الْمُؤْمِنُونَ هَيِّنُونَ» الْهَيِّنُ ذُو السُّهُولَةِ فِي أَمْرِ الدُّنْيَا وَالْمُهِمَّاتِ النَّفْسَانِيَّةِ وَأَمَّا فِي أَمْرِ دِينِهِ فَكَمَا قَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فَصِرْت فِي الدِّينِ أَصْلَبَ مِنْ الْحَجَرِ.

وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ الْجَبَلُ يُمْكِنُ أَنْ يُنْحَتَ مِنْهُ وَلَا يُنْحَتُ مِنْ دِينِ الْمُؤْمِنِ شَيْءٌ «لَيِّنُونَ» لِينُ الْجَانِبِ سُهُولَةُ الِانْقِيَادِ إلَى الْخَيْرِ وَالسَّمَاحَةِ فِي الْمُعَامَلَةِ بِالْبَشَاشَةِ وَالرِّفْقِ وَطَلَاقَةِ الْوَجْهِ وَجَنَاحِ الذُّلِّ عَنْ ابْنِ الْكَمَالِ مَدَحَهُمْ بِالسُّهُولَةِ وَاللِّينِ لِأَنَّهُمَا مِنْ الْأَخْلَاقِ الْحَسَنَةِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى - {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: ١٥٩] فَإِنْ قُلْت لَا تَكُنْ رَطْبًا فَتُعْصَرَ وَلَا تَكُنْ يَابِسًا فَتُكْسَرَ.

وَلِذَا قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ لَا تَكُنْ حُلْوًا فَتُبْلَعَ وَلَا مُرًّا فَتُلْفَظَ فَفِيهِ نَهْيٌ عَنْ اللِّينِ فَمَا وَجْهُ الْمَدْحِ قُلْت لَا شُبْهَةَ فِي أَنَّ خَيْرَ الْأُمُورِ أَوْسَطُهَا وَطَرَفَيْ الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ مَذْمُومَانِ إجْمَاعًا وَفِي حَدِيثِ الْجَامِعِ أَيْضًا «الْمُؤْمِنُ هَيِّنٌ لَيِّنٌ» وَفِي الْمَثَلِ " إذَا عَزَّ أَخُوك فَهُنْ " مَعْنَاهُ إذَا عَاسَرَ فَيَاسِرْ.

(تَنْبِيهٌ) فِي هَذَا الْخَبَرِ إشَارَةٌ إلَى مَقَامِ التَّلْوِينِ وَهُوَ كَوْنُ حَالِ الْعَبْدِ السَّالِكِ بَيْنَ التَّجَلِّي وَالِاسْتِتَارِ وَبَيْنَ الْجَذْبِ وَالسُّلُوكِ وَمِنْ ذَلِكَ تَسْتَقِيمُ عُبُودِيَّتُهُ وَيُعْطَى الْمَعْرِفَةَ بِاَللَّهِ وَلِهَذَا قِيلَ الْمُؤْمِنُ يَتَلَوَّنُ فِي يَوْمِهِ سَبْعِينَ مَرَّةً وَذَلِكَ بِحَسَبِ تَجَلِّيَاتِ الْحَقِّ فِي يَوْمِهِ سَبْعِينَ مَرَّةً بِحَسَبِ تَجَلِّيَاتِ الْحَقِّ عَلَيْهِ وَالْمُنَافِقُ يَثْبُتُ عَلَى قَدَمٍ وَاحِدٍ تِسْعِينَ سَنَةً لِكَوْنِهِ مَحْجُوبًا بِالْمَرَاسِمِ الْخِلْقِيَّةِ

<<  <  ج: ص:  >  >>