لَهُمْ وَهُمْ عَنْ اللَّهِ مُبْعَدُونَ قِيلَ وَمَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ قَوْمٌ مِنْ أُمَّتِي إذَا سَمِعُوا الْأَذَانَ أَخَذُوا فِي جِهَازِهِمْ أَسْبَغُوا وُضُوءَهُمْ وَرَاحُوا إلَى مَسَاجِدِهِمْ وَرَكَعُوا رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ وَوَلَّوْا ظُهُورَهُمْ إلَى مَحَارِيبِهِمْ يَخُوضُونَ فِي أَمْرِ دُنْيَاهُمْ فَوَاَللَّهِ لَا تَزَالُ الْمَلَائِكَةُ تَقُولُ لَهُمْ اُسْكُتُوا يَا بُغَضَاءَ اللَّهِ اُسْكُتُوا يَا مُقَتَاءَ اللَّهِ اُسْكُتُوا يَا أَعْدَاءَ اللَّهِ اُسْكُتُوا فَعَلَيْكُمْ لَعْنَةُ اللَّهِ فَإِذَا صَلَّوْا ضَرَبَتْ وُجُوهَهُمْ بِصَلَاتِهِمْ وَانْصَرَفُوا وَقَدْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ»
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - لَا بُدَّ لِلنَّاسِ مِنْ الْكَلَامِ فِي الْمَسْجِدِ لِأَنَّا نَأْتِي مِنْ دُورٍ شَتَّى فَقَالَ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ أَمَا كَانَ لَك فِي كِتَابِ اللَّهِ وَعْظٌ حَيْثُ يَقُولُ {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: ٩] وَلَمْ يَقُلْ إلَى ذِكْرِ الدُّنْيَا يَا ابْنَ عَبَّاسٍ إنَّ الْجَلِيسَ فِي الْمَسْجِدِ جَلِيسُ اللَّهِ فَإِذَا وَقَرَّ اللَّهَ بِالسُّكُوتِ وَقَرَّهُ اللَّهُ بِجَنَّاتِ النَّعِيمِ وَمَنْ اسْتَهَانَ بِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى بِالْكَلَامِ فِيهِ كَبَّهُ اللَّهُ فِي جَهَنَّمَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - لَقَدْ قُلْت لِرَسُولِ اللَّهِ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ مَرَّةً أَنْ يُرَخِّصَ فِي الْكَلَامِ فِي الْمَسْجِدِ فَمَا زَادَنِي فِيهِ إلَّا شِدَّةً - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «يَكُونُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي يَأْتُونَ الْمَسَاجِدَ وَيَقْعُدُونَ فِيهَا حِلَقًا حِلَقًا ذِكْرُهُمْ الدُّنْيَا وَحُبُّ الدُّنْيَا لَا تُجَالِسُوهُمْ فَلَيْسَ لِلَّهِ بِهِمْ حَاجَةٌ» وَعَنْ مُعَاذٍ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ كُلُّ كَلَامٍ فِي الْمَسْجِدِ لَغْوٌ إلَّا لِثَلَاثٍ مُصَلٍّ أَوْ ذَاكِرٍ أَوْ سَائِلٍ حَقًّا أَوْ مُعْطِيهِ وَرُوِيَ أَنَّ مَسْجِدًا مِنْ الْمَسَاجِدِ ارْتَفَعَ إلَى السَّمَاءِ شَاكِيًا مِنْ أَهْلِهِ يَتَكَلَّمُونَ فِيهِ بِكَلَامِ الدُّنْيَا فَاسْتَقْبَلَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَقَالُوا بُعِثْنَا بِإِهْلَاكِهِمْ وَرُوِيَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ يَشْكُونَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ نَتْنِ فَمِ الْمُغْتَابِينَ وَالْقَائِلِينَ فِي الْمَسْجِدِ بِكَلَامِ الدُّنْيَا وَعَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ كَانَ النَّاسُ فِيمَا مَضَى فِي مَسَاجِدِهِمْ عَلَى ثَلَاثَةِ أَصْنَافٍ صِنْفٍ فِي صَلَاةٍ لَهَا مِنْ اللَّهِ تَعَالَى نُورٌ سَاطِعٌ وَصِنْفٍ فِي ذِكْرٍ مَعْرُوجٍ بِهِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَصِنْفٍ صَامِتٍ سَالِمٍ فَانْتَقَلَ ذَلِكَ فَصَارَتْ الْمَسَاجِدُ مَعَادِنَ خَوْضِهِمْ وَمَوَاطِنَ لَهْوِهِمْ يَتَفَكَّهُونَ فِيهَا بِالْغِيبَةِ وَيُفِيدُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا النَّمِيمَةَ
وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيِّبِ مَنْ جَلَسَ فِي الْمَسْجِدِ قَائِمًا يُجَالِسُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فَمَا حَقُّهُ إلَّا خَيْرًا انْتَهَى كَلَامُ الشَّيْخِ ابْنِ عَلْوَانَ فِي أَسْنَى الْمَقَاصِدِ وَفِي الشِّرْعَةِ وَلَا يَتَكَلَّمُ فِي الْمَسْجِدِ بِأَمْرِ الدُّنْيَا وَلَا يَحْتَرِفُ مِنْهَا وَوَرَدَ فِي الْأَثَرِ «الْحَدِيثُ فِي الْمَسَاجِدِ يَأْكُلُ الْحَسَنَاتِ كَمَا تَأْكُلُ الْبَهِيمَةُ الْحَشِيشَ» كَذَا نُقِلَ عَنْ الْإِحْيَاءِ وَقِيلَ عَنْ الْخِزَانَةِ هَذَا فِي التَّقْوَى.
وَأَمَّا فِي الْفَتْوَى فَجَائِزٌ وَإِنْ كَانَ الْأَوْلَى الِاشْتِغَالَ بِذَكَرِ اللَّهِ أَقُولُ فِيهِ نَظَرٌ ظَاهِرٌ لِمُخَالَفَتِهِ ظَاهِرَ مِثْلِ هَذِهِ الْآثَارِ وَلِمَا وَقَعَ فِي نَحْوِ الْأَشْبَاهِ مِنْ أَنَّهُ يُكْرَهُ وَيُمْنَعُ الْكَلَامُ الْمُبَاحُ فِي الْمَسَاجِدِ فَبَعْدَ تَسْلِيمِ صِحَّةِ النَّقْلِ يُرَجَّحُ مَا يُوَافِقُ الْقِيَاسَ وَاَلَّذِي يَشْهَدُهُ النَّصُّ عَلَى مَا لَيْسَ كَذَلِكَ فَافْهَمْ وَأَمَّا حَدِيثُ «مَنْ تَكَلَّمَ بِكَلَامِ الدُّنْيَا فِي الْمَسْجِدِ أَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُ أَرْبَعِينَ سَنَةً» فَعَنْ الصَّغَانِيِّ مَوْضُوعٌ وَعَنْ عَلِيٍّ الْقَارِيّ بَاطِلٌ مَعْنًى وَمَبْنًى (وَيَدْخُلُ فِيهِ) فِي الْكَلَامِ الدُّنْيَوِيِّ (الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ) .
وَكَذَا سَائِرُ كُلِّ عَقْدٍ بَلْ هُوَ أَشَدُّ مِنْ كَلَامِ الدُّنْيَا وَلَوْ بَيْعَ كُتُبٍ قَالَ فِي الْأَشْبَاهِ وَيُكْرَهُ الصِّنَاعَةُ فِيهِ مِنْ خِيَاطَةٍ وَكِتَابَةٍ بِأَجْرٍ وَتَعْلِيمِ صِبْيَانٍ بِأَجْرٍ اهـ فَلَا يَجُوزُ إعْطَاءُ الْفَتْوَى بِأَجْرٍ أَوْ بِثَمَنٍ وَلَوْ لِلْمُعْتَكِفِ لَعَلَّ الْحِيلَةَ أَنْ يَهَبَهَا الْمُفْتِي لِلْمُسْتَفْتِي بِلَا عَقْدِ إجَارَةٍ أَوْ بَيْعٍ ثُمَّ الْمُسْتَفْتِي يُعْطِيهِ شَيْئًا عَلَى طَرِيقِ الصِّلَةِ وَأَمَّا تَجْوِيزُ ذَلِكَ لِضَرُورَةِ الِاعْتِكَافِ فَلَا يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ بِلَا نَقْلٍ صَحِيحٍ فَتَأَمَّلْ (لِغَيْرِ الْمُعْتَكِفِ) لَا مُطْلَقًا بَلْ بِمَا لَا بُدَّ مِنْهُ مِنْ نَحْوِ الطَّعَامِ وَفِي الدُّرَرِ رُخِّصَ فِي الْمَسْجِدِ بِأَكْلٍ وَشُرْبٍ وَنَوْمٍ وَبَيْعٍ لِلْمُعْتَكِفِ وَلَكِنْ لَا يُحْضِرُ السِّلْعَةَ وَفِي الْأَشْبَاهِ وَيُكْرَهُ دُخُولُهُ لِمَنْ أَكَلَ ذَا رِيحٍ كَرِيهَةٍ وَيُمْنَعُ مِنْهُ وَكَذَا كُلُّ مُؤْذٍ فِيهِ وَلَوْ بِلِسَانِهِ وَمِنْ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَكُلُّ عَقْدٍ لِغَيْرِ الْمُعْتَكِفِ بِقَدْرِ حَاجَتِهِ إنْ لَمْ يُحْضِرْ السِّلْعَةَ فَتَأَمَّلْ.
فَإِنَّ ظَاهِرَ الدُّرَرِ مُطْلَقٌ كَظَاهِرِ الْمُصَنِّفِ وَظَاهِرَ الْأَشْبَاهِ مُقَيَّدٌ بِمَا لَا بُدَّ مِنْهُ كَمَا عَنْ الذَّخِيرَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ حَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ لِمُسَاعِدَةِ قَاعِدَةِ الْحَمْلِ عِنْدَنَا فَالْبَيْعُ عِنْدَ إحْضَارِ السِّلْعَةِ مَكْرُوهٌ مُطْلَقًا وَعِنْدَ عَدَمِهِ جَائِزٌ لِلْمُعْتَكِفِ دُونَ غَيْرِهِ فَشِرَاءُ الْمُعْتَكِفِ لِمَا لَا بُدَّ مِنْهُ إنَّمَا يَجُوزُ خَارِجَ الْمَسْجِدِ قِيلَ وَهُوَ مُخْتَارُ قَاضِي خَانْ وَرَجَّحَهُ الزَّيْلَعِيُّ بِأَنَّهُ مُنْقَطِعٌ إلَى اللَّهِ فَلَا يَنْبَغِي الِاشْتِغَالُ بِأُمُورِ الدُّنْيَا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute