«لِضُرٍّ» الظَّاهِرُ أَيْ دُنْيَوِيٍّ كَالْفَقْرِ وَالْمَرَضِ وَالْمُصِيبَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَإِلَّا فَيَجُوزُ تَمَنِّيهِ لِلْفِتْنَةِ الدِّينِيَّةِ كَمَا يُشِيرُ إلَيْهِ الدُّعَاءُ فِي الْحَدِيثِ وَإِذَا أَرَدْت بِقَوْمٍ فِتْنَةً فَتَوَفَّنِي غَيْرَ مَفْتُونٍ «نَزَلَ بِهِ فَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ» مَنْ نَزَلَ بِهِ ذَلِكَ «فَاعِلًا» لِلدُّعَاءِ بِالْمَوْتِ «فَلْيَقُلْ اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مَا» مَصْدَرِيَّةٌ بِمَعْنَى الْمُدَّةِ «كَانَتْ الْحَيَاةُ خَيْرًا لِي» بِاكْتِسَابِ مَا يَتَقَرَّبُ بِهِ إلَى اللَّهِ «وَتَوَفَّنِي إذَا كَانَتْ الْوَفَاةُ خَيْرًا لِي» فَإِذَا لَمْ يُتَوَفَّ يَكْتَسِبْ الشُّرُورَ وَالسَّيِّئَاتِ يَشْكُلُ مِثْلُهُ بِأَنَّ الْأَجَلَ فِي عِلْمِ اللَّهِ لَا يَتَقَدَّمُ وَلَا يَتَأَخَّرُ فَطَلَبُ تَقَدُّمِهِ أَوْ تَأَخُّرِهِ مُحَالٌ وَمِثْلُهُ خَيْرِيَّةُ الْحَيَاةِ أَوْ التَّوَفِّي بِالنِّسْبَةِ إلَى عِلْمِهِ تَعَالَى فَلَا يَجْرِي التَّأْوِيلُ الْمَشْهُورُ بِالْمُعَلَّقِ وَبِمَا فِي عِلْمِ الْمَلِكِ أَوْ اللَّوْحِ لِأَنَّ مُقْتَضَى السُّوقِ إنَّمَا هُوَ بِالنَّظَرِ إلَى عِلْمِهِ تَعَالَى وَلَا يَقُلْ اللَّهُمَّ تَوَفَّنِي بِطَرِيقِ الْجَزْمِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْخَيْرُ فِي الْحَيَاةِ وَلِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ رِضَاهُ بِمَا نَزَلَ عَلَيْهِ مِنْ مَرَضٍ.
وَأَمَّا إذَا تَمَنَّى الْمَوْتَ لِأَجْلِ الْخَوْفِ عَلَى دِينِهِ لِفَسَادِ الزَّمَانِ فَلَا كَرَاهَةَ فِيهِ عَلَى مَا سَيَجِيءُ (خ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «لَا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمْ الْمَوْتَ» لِأَنَّ شَأْنَ الْمُؤْمِنِ التَّزَوُّدُ لِلْآخِرَةِ وَالسَّعْيُ فِيمَا يَزِيدُ ثَوَابَهَا مِنْ الْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ كَمَا يُشِيرُ إلَيْهِ حَدِيثُ «طُوبَى لِمَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ» وَحَدِيثُ «خِيَارُكُمْ مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ» فَمِنْ شَأْنِ الِازْدِيَادِ وَالتَّرَقِّي مِنْ حَالٍ إلَى حَالٍ وَمِنْ مَقَامٍ إلَى مَقَامِ الْقُرْبِ الْإِلَهِيِّ كَيْفَ يَطْلُبُ الْقَطْعَ عَنْ مَطْلُوبِهِ إذْ الْمَوْتُ قَاطِعٌ لِذَلِكَ «إمَّا مُحْسِنًا» أَيْ إنْ كَانَ مُحْسِنًا فَحَذَفَ الْفِعْلَ بِمَا اسْتَكَنَ فِيهِ مِنْ الضَّمِيرِ ثُمَّ عَوَّضَ عَنْهُ مَا وَأَدْغَمَ فِي مِيمِهَا النُّونَ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ حَرْفًا قَاسِمًا وَمُحْسِنًا خَبَرُ كَانَ بِمَعْنَى إمَّا أَنْ يَكُونَ مُحْسِنًا أَوْ حَالٌ وَالْعَامِلُ فِيهِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْفِعْلُ السَّابِقُ أَيْ: إمَّا أَنْ لَا يَتَمَنَّاهُ مُحْسِنًا «فَلَعَلَّهُ يَزْدَادُ» فِي حَسَنَاتِهِ «أَوْ مُسِيئًا فَلَعَلَّهُ يَسْتَعْتِبُ» أَيْ يَطْلُبُ الْعُتْبَى وَهُوَ الْإِرْضَاءُ وَالْمُرَادُ طَلَبُ رِضَاهُ تَعَالَى بِالتَّوْبَةِ وَرَدِّ الْمَظَالِمِ وَتَدَارُكِ الْفَائِتِ وَإِصْلَاحِ الْعَمَلِ ذَكَرَهُ الْقَاضِي.
قَالَ التوربشتي: وَالنَّهْيُ وَإِنْ أُطْلِقَ لَكِنْ الْمُرَادُ التَّقْيِيدُ بِمَا وَجَدَ بِهِ مِنْ تِلْكَ الدَّلَالَةِ وَقَدْ تَمَنَّاهُ كَثِيرٌ مِنْ الصِّدِّيقِينَ شَوْقًا إلَى لِقَائِهِ تَعَالَى وَتَنَعُّمًا بِالْوُصُولِ إلَى حَضْرَتِهِ وَذَلِكَ غَيْرُ دَاخِلٍ تَحْتَ نَهْيِ التَّقْيِيدِ وَالْمُطْلَقُ رَاجِعٌ إلَى الْمُقَيَّدِ اهـ هَذَا وَلَيْسَ لَك أَنْ تَقُولَ لَمْ تَنْحَصِرْ الْقِسْمَةُ فِي هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ فَلَعَلَّهُ يَكُونُ سَيِّئًا فَيَزْدَادُ إسَاءَةً فَتَكُونُ زِيَادَةُ الْعُمُرِ زِيَادَةً لَهُ فِي الشِّفَاءِ كَمَا فِي خَبَرِ «شَرُّ النَّاسِ مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَسَاءَ عَمَلُهُ» أَوْ لَعَلَّهُ يَكُونُ مُحْسِنًا فَتَنْقَلِبُ حَالُهُ إلَى الْإِسَاءَةِ لِأَنَّا نَقُولُ تَرَجَّى الْمُصْطَفَى لَهُ زِيَادَةَ الْإِحْسَانِ وَالِانْفِكَاكَ عَنْ السُّوءِ بِتَقْدِيرِ أَنْ يَدُومَ عَلَى حَالِهِ فَإِذَا كَانَ مَعَهُ أَصْلُ الْإِيمَانِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ بِكُلِّ حَالٍ وَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَخِفَّ إحْسَانُهُ فَذَلِكَ الْإِحْسَانُ الْخَفِيفُ الَّذِي دَاوَمَ عَلَيْهِ يُضَاعَفُ لَهُ مَعَ أَصْلِ الْإِيمَانِ وَإِنْ زَادَتْ إسَاءَتُهُ فَالْإِسَاءَةُ كَثِيرٌ مِنْهَا مُكَفَّرٌ وَمَا لَا يُكَفَّرُ يُرْجَى الْعَفْوُ عَنْهُ فَمَا دَامَ مَعَهُ الْإِيمَانُ فَالْحَيَاةُ خَيْرٌ لَهُ كَمَا بَيَّنَهُ أَبُو زُرْعَةَ كَذَا فِي الْفَيْضِ فَلْيُتَأَمَّلْ فِيهِ.
ثُمَّ فِي الْفَيْضِ أَيْضًا وَهَذَا حَدِيثٌ اشْتَمَلَ عَلَى جُمْلَتَيْنِ الْأُولَى خَرَّجَهَا الشَّيْخَانِ وَهِيَ «لَنْ يَدْخُلَ أَحَدُكُمْ الْجَنَّةَ بِعَمَلِهِ قَالُوا وَلَا أَنْتَ قَالَ وَلَا أَنَا إلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ» وَالثَّانِيَةِ هَذِهِ اقْتَصَرَ عَلَيْهَا الْمُصَنِّفُ وَذَلِكَ قَوْلُهُ (وَفِي رِوَايَةِ م «لَا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمْ الْمَوْتَ وَلَا يَدْعُ» إلَى رَبِّهِ «بِهِ» أَيْ بِالْمَوْتِ «مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُ أَنَّهُ» أَيْ الشَّأْنُ «إذَا مَاتَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ» يَعْنِي لَا يَتَمَنَّى وَلَا يَدْعُو بِالْمَوْتِ لِأَنَّهُ لَيْسَ شَيْئًا حَرِيًّا بِالتَّمَنِّي وَالدُّعَاءِ لِأَنَّهُ شَيْءٌ يَنْقَطِعُ بِهِ الْعَمَلُ فَلِذَا صَارَ الْعُمُرُ أَصْلَ مَالِ الْمُؤْمِنِ يَشْتَرِي بِهِ رَحْمَتَهُ تَعَالَى وَثَوَابَهُ وَقُرْبَهُ وَرِضَاهُ تَعَالَى فَلِهَذَا لَمْ يُعْطَ لِلْإِنْسَانِ شَيْءٌ أَعَزُّ مِنْ الْعُمُرِ وَقَدْ سَبَقَ خَبَرُ «خِيَارُكُمْ مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ» لَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا إنْ كَانَ الْعَمَلُ خَيْرًا فَيَشْكُلُ بِكَوْنِ الْعَمَلِ شَرًّا لَا سِيَّمَا فِي زَمَانِنَا وَقَدْ قِيلَ زَمَانُنَا هَذَا هُوَ زَمَانُ الشُّرُورِ فَلَعَلَّك تَسْتَبْعِدُ الْجَوَابَ بِمَا سَبَقَ فَانْتَظِرْ أَيْضًا وَأَيْضًا يَشْكُلُ بِنَحْوِ قَوْلِهِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute