الرحمة الإلهية لا يطالبنا إلا بالشيء السهل الهين فكذلك نحن بحكم العبودية وجب أن نكون سامعين مطيعين. وإن قلنا: إن هذا من كلام الله تعالى فوجه النظم أنهم لما قالوا: سمعنا وأطعنا، ثم قالوا بعده: غفرانك ربنا، دل ذلك على أن قولهم: غفرانك، طلب للمغفرة مما يصدر عنهم من وجوه التقصير منهم على سبيل العمد، فلما كان قولهم غفرانك طلبا للمغفرة من ذلك التقصير فلا شك في أن الله تعالى خفف عنهم ذلك وقال: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها. والمعنى أنكم إذا سمعتم وأطعتم ولم تتعمدوا التقصير، فلو وقع منكم نوع تقصير على سبيل السهو والغفلة فلا تكونوا خائفين منه فإن الله تعالى لا يكلف نفسا إلا وسعها. وبالجملة فهذا إجابة لهم من الله في دعائهم بقولهم غفرانك ربنا، اه. رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا أي يا ربنا لا تعاقبنا إِنْ نَسِينا طاعتك أَوْ أَخْطَأْنا في أمرك رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً أي تكليفا بالأمور الشاقة. كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا من بني إسرائيل أي لا تشدد علينا في التكاليف كما شددت على من قبلنا من اليهود.
قال المفسرون: إن الله تعالى فرض عليهم خمسين صلاة في اليوم والليلة، وأمرهم بأداء ربع أموالهم في الزكاة. ومن أصاب ثوبه نجاسة أمر بقطعها. وكانوا إذا نسوا شيئا عجلت لهم العقوبة في الدنيا، وكانوا إذا أتوا بخطيئة حرم عليهم من الطعام بعض ما كان حلالا لهم رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ أي قوة لَنا بِهِ من البلاء والعقوبة. أي ولا تحمل علينا أيضا ما لا راحة لنا فيه من الاستكراه. وَاعْفُ عَنَّا أي امح آثار ذنوبنا وَاغْفِرْ لَنا أي استر عيوبنا ولا تفضحنا بين عبادك. وَارْحَمْنا أي تعطّف بنا وتفضّل علينا. أَنْتَ مَوْلانا أي أنت سيدنا وناصرنا ونحن عبيدك ويقال: واعف عنا من المسخ كما مسخت قوم عيسى واغفر لنا من الخسف كما خسفت بقارون، وارحمنا من القذف كما قذفت قوم لوط. فلما دعوا بهذا الدعاء رفع الله عنهم ذنوب حديث النفس والنسيان والخطأ والاستكراه وعفا عنهم من الخسف والمسخ والقذف. فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٢٨٦) أي انصرنا عليهم في محاربتنا معهم، وفي مناظرتنا بالحجة معهم، وفي إعلاء دولة الإسلام على دولتهم. ولما مدح الله تعالى المتقين في أول السورة بيّن في آخر السورة أنهم أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم فقال: وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وهذا هو المراد بقوله تعالى هناك: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ثم قال هاهنا:
وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا هو المراد بقوله تعالى هناك: وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ ثم قال هاهنا: غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ وهو المراد بقوله تعالى هناك: وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ثم حكى الله تعالى عنهم هاهنا كيفية تضرعهم إلى ربهم في قولهم: رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا إلى آخر السورة وهو المراد بقوله تعالى: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ فانظر كيف حصلت الموافقة بين أول السورة وآخرها.