الباطل، والحجة من الشبهة، وَالْمِيزانَ هو الذي يتوسل به إلى فعل ما ينبغي من الأفعال البدنية، وهو الذي يتميز به العدل عن الظلم والزائد عن الناقص، لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ أي ليتعاملوا فيما بينهم بالعدل، وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ أي قوة شديدة وهو زاجر للخلق عما لا ينبغي. والحاصل أن الكتاب إشارة إلى القوة النظرية، والميزان إشارة إلى القوة العملية والحديد إشارة إلى دفع ما لا ينبغي. وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ أي لأمتعتهم مثل السكاكين، والفاس، والمبرد وغير ذلك، وما من صنعة إلا والحديد آلتها، وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ أي وليعلم الله من ينصر دينه ورسله باستعمال السيوف، والرماح، وسائر السلاح في مجاهدة أعداء الدين، حال كونه تعالى غائبا عنهم، أي ينصرونه تعالى ولا يبصرونه، إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ على الأمور قادر على إهلاك جميع أعدائه، عَزِيزٌ (٢٥) أي لا يمانع ولا يفتقر إلى نصرة أحد بل وإنما ليصلوا بامتثال الأمر في الجهاد إلى الثواب، وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ فما جاء بعدهما أحد بالنبوة، إلّا وكان من أولادهما، وكانت الكتب الأربعة في ذرية إبراهيم، وهو من ذرية نوح، فإنه الأب الثاني لجميع البشر، فَمِنْهُمْ أي الذرية مُهْتَدٍ إلى الحق وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (٢٦) ، أي خارجون عن الطريق المستقيم ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ، أي نوح وإبراهيم ومن أرسلا إليهم بِرُسُلِنا أي أرسلنا بعضهم بعد بعض إلى أن انتهى إلى أيام عيسى عليه السلام، وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، أي جعلناه متأخرا عنهم في الزمان وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ أي أعطيناه الإنجيل. وقرأ الحسن بفتح همزة «أنجيل» تنبيها على كونه أعجميا، وأنه لا يلزم فيه مراعاة أبنية العرب وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ على دينه رَأْفَةً أي لينا وَرَحْمَةً، أي شفقة أي وفقناهم للتراحم والتعاطف بينهم. وقرئ «رآفة» على وزن فعالة، وَرَهْبانِيَّةً. وقرئ بضم الراء ابْتَدَعُوها، أي أحدثوها من عند أنفسهم ونذروها أي وفقناهم لاستحداث الرهبانية لينجوا من فتنة بولس اليهودي.
وروى ابن مسعود أنه صلّى الله عليه وسلّم قال:«يا ابن مسعود، أما علمت أن بني إسرئيل تفرقوا سبعين فرقة كلها في النار إلّا ثلاث فرق: فرقة آمنت بعيسى عليه السلام وقاتلوا أعداء الله في نصرته حتى قتلوا، وفرقة لم يكن لها طاقة بالقتال فأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، وفرقة لم يكن لها طاقة بالأمرين فلبسوا العباء وخرجوا إلى القفار والفيافي»
«١» . ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ أي لم نفرض الرهبانية عليهم. وهذه الجملة صفة ثانية لرهبانية، إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ أي ولكنهم ابتدعوها ابتغاء رضوان الله، فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها أي فما حفظوا الرهبانية حق حفظها، لأنهم أتوها
(١) رواه الطبراني في المعجم الكبير (١٠: ٢١٢) ، وابن كثير في التفسير (٨: ٥٥) وفيه: «يا ابن مسعود، هل علمت ... اثنين وسبعين» .