ولأنها لا تثمر إلا عند اللقاح من ذكر النخل، وإذا قطعت رأسها ماتت. فكأنه تعالى قال: كما أن الأنثى لا تلد إلا مع الذكر، فكذا النخلة لا تثمر إلا عند اللقاح. ثم إني أظهر الرطب من غير اللقاح، ليدل ذلك على جواز ظهور الولد من غير ذكر فحملها بمجرد هزها أنسب شيء بإتيانها بولد من غير والد، قالَتْ لما خافت أن يظن بها السوء في دينها، فيقع في المعصية من يتكلم فيها وهي راضية بما بشّرها به جبريل: يا أي أنبهك يا مخاطب، لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا، الوقت الذي فيه الأمر العظيم.
وقرأ نافع وحفص وحمزة والكسائي «مت» بكسر الميم. والباقون بالضم. وَكُنْتُ نَسْياً، أي شيئا تافها لا يعتدّ به أصلا كخرقة الطمث، ونحوها.
وقرأ حفص وحمزة وابن وثاب والأعمش بفتح النون، والباقون بالكسر. وقرأ محمد بن كعب القرظي «نسأ» بالهمز وبهما، وهو الحليب المخلوط بالماء الكثير ينساه أهله لقلته واستهلاكه في الماء، مَنْسِيًّا (٢٣) أي متروكا لم يذكر بالبال، وهو نعت للمبالغة. وهذا جرى على عادة الصالحين عند اشتداد الأمر عليهم، فإنهم يقولون مثل ذلك.
كما روي عن أبي بكر أنه نظر إلى طائر على شجرة فقال: طوبى لك يا طائر تقع على الشجرة، وتأكل من الثمر وددت أني ثمرة ينقرها الطائر. وعن عمر أنه أخذ تبنة من الأرض فقال:
يا ليتني هذه التبنة ولم أك شيئا. وعن علي أنه قال يوم الجمل: يا ليتني متّ قبل هذا اليوم بعشرين سنة. وعن بلال أنه قال: ليت بلالا لم تلده أمه. وقرأ الأعمش:«منسيا» بكسر الميم اتباعا للسين. فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (٢٤) .
وقرأ نافع وحفص وحمزة والكسائي: ب «من» الجارة، أي فناداها جبريل من مكان أسفل منها تحت الأكمة، أي لا تحزني يا مريم على ولادة عيسى، قد جعل ربك بمكان أسفل منك، أو قريب منك نهرا صغيرا، أو إنسانا شريفا جليلا.
ويدل على ذلك قراءة ابن عيسى، فناداها ملك من تحتها، ويقال: فناداها المولود كائنا من تحت ذيلها، أي لا تحزني يا أمي، قد جعل ربك تحتك جدولا يجري، ويمسك بأمرك، أو نبيا مرتفع القدر. وقرأ الباقون ب «من» الموصولة.
وقرأ زر وعلقمة «فخاطبها» من تحتها بفتح الميم، أي فناداها عيسى الذي كان تحت ذيلها أي لا تحزني قد جعل ربك تحتك رئيسا عزيزا لا يكاد يوجد له نظير أو جدولا بضرب جبريل الأرض برجله.
ويقال: فناداها جبريل من تحتها يقبل الولد كالقابلة، أو من تحت النخلة بأن لا تحزني، قد جعل ربك قربك عين ماء عذب، تعظيما لشأنك فإن الله تعالى أرسل جبريل إليها ليناديها بهذه الكلمات. كما أرسل إليها في أول الأمر ليكون ذلك تذكيرا لها ما تقدم من أصناف البشارات، أو