للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَوَجْهُهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى رَدَّ شَهَادَتَهُ عَلَى التَّأْبِيدِ فَمَنْ قَالَ هُوَ مُؤَقَّتٌ إلَى وُجُودِ التَّوْبَةِ يَكُونُ رَدًّا لِمَا اقْتَضَاهُ النَّصُّ فَيَكُونُ مَرْدُودًا، وَالْقِيَاسُ عَلَى الْكُفْرِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْجَرَائِمِ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ الْمُخَالِفَ لِلنَّصِّ لَا يَصِحُّ وَلِأَنَّ رَدَّ الشَّهَادَةِ مَعْطُوفٌ عَلَى الْجُمْلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَهِيَ حَدٌّ فَكَذَا هَذَا فَصَارَ مِنْ تَمَامِ الْحَدِّ إذْ الْعَطْفُ لِلِاشْتِرَاكِ وَتَغَايُرُهُمَا بِالْأَمْرِ، وَالنَّهْيِ لَا يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ كَقَوْلِهِمْ: اجْلِسْ وَلَا تَتَكَلَّمْ فَكَانَ الْكُلُّ جَزَاءَ جَرِيمَتِهِ وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْجُمْلَةَ الْأَخِيرَةَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى مَا قَبْلَهَا؛ لِأَنَّ مَا قَبْلَهَا حُدُودٌ وَلِهَذَا أَمَرَ الْأَئِمَّةُ بِهِ وَقَوْلُهُ {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: ٤] لَيْسَ بِحَدٍّ، وَإِنَّمَا هُوَ إخْبَارٌ عَنْ وَصْفٍ قَامَ بِالذَّاتِ فَلَا يَصْلُحُ حَدًّا؛ لِأَنَّ الْحَدَّ يَقَعُ بِفِعْلِ الْأَئِمَّةِ لَا بِوَصْفٍ قَائِمٍ بِالذَّاتِ فَلَا يَنْصَرِفُ الِاسْتِثْنَاءُ إلَى الْجَمِيعِ، وَلَوْ انْصَرَفَ لَبَطَلَ الْحَدُّ وَلَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ فَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ الْوَاوَ فِي قَوْله تَعَالَى {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: ٤] وَاوُ نَظْمٍ لَا وَاوُ عَطْفٍ فَيَكُونُ مُنْقَطِعًا عَنْ الْأَوَّلِ فَيَنْصَرِفُ الِاسْتِثْنَاءُ إلَى مَا يَلِيهِ ضَرُورَةً كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [آل عمران: ٧].

أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَصْلُحُ جَزَاءً لِجَرِيمَتِهِ، وَالْجَلْدُ وَرَدُّ الشَّهَادَةِ يَصْلُحَانِ جَزَاءً؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُؤْلِمٌ زَاجِرٌ عَنْ ارْتِكَابِ هَذِهِ الْجَرِيمَةِ فَصَارَ رَدُّ الشَّهَادَةِ قَطْعًا لِلْآلَةِ الْجَانِيَةِ مَعْنًى وَهِيَ اللِّسَانُ كَقَطْعِ الْيَدِ حَقِيقَةً فِي السَّرِقَةِ فَصَارَ الرَّدُّ مِنْ تَمَامِ الْحَدِّ، وَالْحَدُّ لَا يَرْتَفِعُ بِالتَّوْبَةِ، فَإِذَا لَمْ تَكُنْ الْوَاوُ لِلْعَطْفِ لَا يَنْصَرِفُ الِاسْتِثْنَاءُ إلَى الْجَمِيعِ بِخِلَافِ مَا ذُكِرَ مِنْ الْمِثَالِ؛ لِأَنَّ الْوَاوَ فِيهِ لِلْعَطْفِ أَلَا تَرَى أَنَّ كُلَّهَا جُمَلٌ إنْشَائِيَّةٌ فَيَتَوَقَّفُ كُلُّهَا عَلَى آخِرِهَا حَتَّى إذَا وُجِدَ الْمُغَيِّرُ فِي الْأَخِيرِ تَغَيَّرَ الْكُلُّ، وَالْقِيَاسُ عَلَى الْكُفْرِ وَغَيْرِهِ مُمْتَنِعٌ لِفَقْدِ شَرْطِهِ وَهُوَ أَنْ لَا يَكُونَ فِي الْفَرْعِ نَصٌّ يُمْكِنُ الْعَمَلُ بِهِ وَهُنَا نَصٌّ عَلَى التَّأْبِيدِ فَكَيْفَ يُمْكِنُ الْقِيَاسُ عَلَيْهِ وَلَا جَائِزَ أَنْ يَكُونَ رَدُّ شَهَادَتِهِ لِفِسْقِهِ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالنَّصِّ فِي خَبَرِ الْفَاسِقِ هُوَ التَّوَقُّفُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: ٦] لَا الرَّدُّ وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الرَّدُّ لِأَجْلِ فِسْقِهِ لَلَزِمَ عَطْفُ الْعِلَّةِ عَلَى حُكْمِهَا وَهُوَ لَا يَجُوزُ فَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ رَدَّ الشَّهَادَةِ لِأَجْلِ أَنَّهُ حَدٌّ لَا لِلْفِسْقِ وَلِهَذَا لَوْ أَقَامَ أَرْبَعَةً بَعْدَمَا حُدَّ عَلَى أَنَّهُ زَنَى تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ بَعْدَ التَّوْبَةِ فِي الصَّحِيحِ؛ لِأَنَّهُ بَعْدَ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ لَا يُحَدُّ فَكَذَا لَا تُرَدُّ شَهَادَتُهُ.

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (إلَّا أَنْ يُحَدَّ الْكَافِرُ فِي قَذْفٍ ثُمَّ أَسْلَمَ)، فَإِنَّهُ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ بَعْدَ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ شَهَادَةٌ اسْتَفَادَهَا بَعْدَ الْحَدِّ بِالْإِسْلَامِ فَلَمْ يَلْحَقْهَا رَدٌّ؛ لِأَنَّ الَّتِي رُدَّتْ غَيْرُ هَذِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَرْدُودَةَ لَا تُقْبَلُ عَلَى الْمُسْلِمِ وَهَذِهِ تُقْبَلُ فَبِرَدِّ الْأُولَى لَا تَرْتَدُّ الثَّانِيَةُ بِخِلَافِ الْعَبْدِ إذَا حُدَّ ثُمَّ أُعْتِقَ حَيْثُ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَهَادَةٌ عَلَى أَحَدٍ وَقْتَ الْجَلْدِ فَلَمْ يَتِمَّ الرَّدُّ إلَّا بَعْدَ الْإِعْتَاقِ فِي حَقِّهِ فَلَا يُتَصَوَّرُ قَبُولُهَا مِنْ غَيْرِ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى الْمَقْذُوفِ أَنَّهُ زَنَى عَلَى مَا مَرَّ، وَهَذَا لِأَنَّ الرَّدَّ مِنْ تَتِمَّةِ الْحَدِّ فَفِي الْكَافِرِ تَمَّ فِي حَالِ كُفْرِهِ وَفِي الْعَبْدِ لَمْ يَتِمَّ إلَّا بَعْدَ الْحُرِّيَّةِ، وَلَوْ ضُرِبَ الذِّمِّيُّ فِي حَدِّ الْقَذْفِ سَوْطًا فَأَسْلَمَ ثُمَّ ضُرِبَ الْبَاقِيَ بَعْدَ الْإِسْلَامِ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ؛ لِأَنَّ رَدَّ الشَّهَادَةِ مِنْ تَمَامِ الْحَدِّ، وَالْمَوْجُودُ بَعْدَ الْإِسْلَامِ لَيْسَ بِحَدٍّ بَلْ هُوَ بَعْضُهُ فَلَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ رَدُّ الشَّهَادَةِ وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ إذَا ضُرِبَ السَّوْطَ الْأَخِيرَ بَعْدَ الْإِسْلَامِ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ إذَا تَعَلَّقَ بِعِلَّةٍ ذَاتِ أَجْزَاءٍ تَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِالْجُزْءِ الْأَخِيرِ لِمَا عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ وَعَنْهُ أَنَّهُ إذَا ضُرِبَ الْأَكْثَرَ بَعْدَ الْإِسْلَامِ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ، وَإِنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ تُقْبَلُ؛ لِأَنَّ لِلْأَكْثَرِ حُكْمَ الْكُلِّ.

وَفِي الْمَبْسُوطِ لَا تَسْقُطُ شَهَادَةُ الْقَاذِفِ مَا لَمْ يُضْرَبَ تَمَامَ الْحَدِّ؛ لِأَنَّ إقَامَةَ الْحَدِّ مُسْقِطَةٌ لِلشَّهَادَةِ، وَالْحَدُّ لَا يَتَجَزَّأُ فَمَا دُونَهُ لَا يَكُونُ حَدًّا بَلْ يَكُونُ تَعْزِيرًا وَهُوَ لَا يُسْقِطُ الشَّهَادَةَ وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهَا تَسْقُطُ إذَا أُقِيمَ عَلَيْهِ الْأَكْثَرُ وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ إذَا ضُرِبَ سَوْطًا سَقَطَتْ شَهَادَتُهُ وَهِيَ نَظِيرُ مَسْأَلَةِ إسْلَامِ الذِّمِّيِّ فِي حَالَةِ الْحَدِّ عَلَى مَا بَيَّنَّا

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَالْوَلَدِ لِأَبَوَيْهِ وَجَدَّيْهِ وَعَكْسِهِ وَأَحَدِ الزَّوْجَيْنِ لِلْآخَرِ، وَالسَّيِّدِ لِعَبْدِهِ وَمُكَاتَبِهِ) لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْوَلَدِ لِوَالِدِهِ وَلَا الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ وَلَا الْمَرْأَةِ لِزَوْجِهَا وَلَا الزَّوْجِ لِامْرَأَتِهِ وَلَا الْعَبْدِ لِسَيِّدِهِ وَلَا الْمَوْلَى لِعَبْدِهِ وَلَا الْأَجِيرِ لِمَنْ اسْتَأْجَرَهُ» وَلِأَنَّ الْمَنَافِعَ بَيْنَ هَؤُلَاءِ مُتَّصِلَةٌ وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ أَدَاءُ بَعْضِهِمْ الزَّكَاةَ إلَى بَعْضٍ فَتَكُونُ شَهَادَةً لِنَفْسِهِ مِنْ وَجْهٍ فَلَا تُقْبَلُ وَلَا

ــ

[حاشية الشِّلْبِيِّ]

قَوْلُهُ: لِأَجْلِ أَنَّهُ حُدَّ إلَخْ) شَهَادَةُ الْمَحْدُودِ فِي السَّرِقَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْجِنَايَاتِ سِوَى الْمَحْدُودِ فِي الْقَذْفِ تُقْبَلُ إذَا تَابَ فُرِّقَ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ شَهَادَةِ الْمَحْدُودِ فِي قَذْفٍ إذَا تَابَ حَيْثُ لَا تُقْبَلُ وَالْفَرْقُ أَنَّ رَدَّ الشَّهَادَةِ لِهَؤُلَاءِ كَانَ لِأَجْلِ الْفِسْقِ وَبِالتَّوْبَةِ يَرْتَفِعُ الْفِسْقُ أَمَّا شَهَادَةُ الْمَحْدُودِ فِي الْقَذْفِ إنَّمَا لَا تُقْبَلُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ تَمَامِ الْحَدِّ وَأَصْلُ الْحَدِّ لَا يَرْتَفِعُ بِالتَّوْبَةِ فَكَذَا مَا هُوَ مِنْ تَمَامِهِ. اهـ. وَلْوَالِجِيٌّ فِي أَوَاخِرِ الْفَصْلِ الثَّالِثِ مِنْ أَدَبِ الْقَاضِي (قَوْلُهُ: بَعْدَ التَّوْبَةِ) زَائِدٌ مُفْسِدٌ كَذَا بِخَطِّ قَارِئِ الْهِدَايَةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَقَدْ شَطَبَ فِي نُسْخَتِهِ عَلَى قَوْلِهِ بَعْدَ التَّوْبَةِ وَقَدْ شَاهَدْته ثَانِيًا فِي خَطِّ الشَّارِحِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ فِي الدِّرَايَةِ مَا نَصُّهُ وَفِي الْمَبْسُوطِ وَالصَّحِيحُ مِنْ الْمَذْهَبِ عِنْدَنَا أَنَّهُ إذَا أَقَامَ أَرْبَعَةً مِنْ الشُّهُودِ عَلَى صِدْقِهِ بَعْدَ الْحَدِّ عَلَيْهِ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ اهـ وَهُوَ كَمَا تَرَى يُؤَيِّدُ مَا قَالَهُ قَارِئُ الْهِدَايَةِ. اهـ. (قَوْلُهُ: فِي الْمَتْنِ إلَّا أَنْ يُحَدَّ الْكَافِرُ فِي قَذْفٍ) اعْلَمْ أَنَّ الذِّمِّيَّ إذَا حُدَّ فِي قَذْفٍ لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ ثُمَّ إذَا أَسْلَمَ جَازَتْ شَهَادَتُهُ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ وَعَلَى أَهْلِ الْإِسْلَامِ جَمِيعًا. اهـ. غَايَةٌ

(قَوْلُهُ: وَلَا الْأَجِيرِ لِمَنْ اسْتَأْجَرَهُ) قَالَ قَاضِي خَانْ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي فَتَاوِيهِ إذَا شَهِدَ الْأَجِيرُ لِأُسْتَاذِهِ بِشَيْءٍ اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَاتُ فِيهِ ذَكَرَ فِي كِتَابِ الْكَفَالَةِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ وَذَكَرَ فِي الدِّيَاتِ: أَجِيرُ الْقَاتِلِ إذَا شَهِدَ عَلَى وَلِيِّ الْقَتِيلِ بِالْعَفْوِ جَازَتْ شَهَادَتُهُ وَذَكَرَ الْخَصَّافُ أَنَّ شَهَادَةَ الْأَجِيرِ لِأُسْتَاذِهِ مَرْدُودَةٌ وَهِيَ رِوَايَةُ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالُوا: إنْ كَانَ الْأَجِيرُ مُشْتَرِكًا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ فِي الرِّوَايَاتِ كُلِّهَا وَمَا ذُكِرَ فِي الدِّيَاتِ مَحْمُولٌ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، وَإِنْ كَانَ أَجِيرٌ وَاحِدٌ مُشَاهَرَةً أَوْ مُسَانَهَةً أَوْ مُيَاوَمَةً لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لِأُسْتَاذِهِ لَا فِي تِجَارَتِهِ وَلَا فِي شَيْءٍ آخَرَ وَمَا ذُكِرَ فِي الْكَفَالَةِ مَحْمُولٌ عَلَى هَذَا كَذَا ذَكَرَ النَّاطِفِيُّ وَالْإِمَامُ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ وَوَجْهُهُ ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ أَجِيرَ الْوَحْدِ

<<  <  ج: ص:  >  >>