للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَوَلَاءٍ وَحَدٍّ وَلِعَانٍ وَقَالَ الْقَاضِي الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ) - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - (الْفَتْوَى عَلَى أَنَّهُ يُسْتَحْلَفُ الْمُنْكِرُ فِي الْأَشْيَاءِ السِّتَّةِ) يَعْنِي فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي عَدَّهَا سِوَى الْحَدِّ وَاللِّعَانِ وَهُوَ قَوْلُهُمَا وَالْأَوَّلُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَهُمَا أَنَّ هَذِهِ حُقُوقٌ تَثْبُتُ مَعَ الشُّبُهَاتِ فَيَجْرِي فِيهَا الِاسْتِحْلَافُ كَالْأَمْوَالِ بِخِلَافِ الْحُدُودِ وَاللِّعَانِ، وَهَذَا لِأَنَّ فَائِدَةَ الْحَلِفِ ظُهُورُ الْحَقِّ بِالنُّكُولِ وَالنُّكُولُ إقْرَارٌ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ وَاجِبٌ فَتَرْكُهُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ بَاذِلٌ أَوْ مُقِرٌّ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ بَاذِلًا؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ مِمَّنْ لَا يَجُوزُ الْبَذْلُ مِنْهُ كَالْمُكَاتَبِ وَالْعَبْدِ الْمَأْذُونِ لَهُ فِي التِّجَارَةِ وَكَذَا يَجُوزُ فِي الدَّيْنِ وَلَا يَجُوزُ بَذْلُهُ وَيَجِبُ عَلَى الْقَاضِي أَنْ يَقْضِيَ بِالنُّكُولِ وَيَصِحُّ إيجَابُهُ فِي الذِّمَّةِ ابْتِدَاءً، وَلَوْ كَانَ بَذْلًا لَمَا صَحَّ وَلَا وَجَبَ وَكَذَا يَجِبُ الْقِصَاصُ بِهِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ وَيَصِحُّ فِي الشَّائِعِ فِيمَا يُقْسَمُ، وَلَوْ كَانَ بَذْلًا لَمَا صَحَّ وَلَا وَجَبَ فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ مُقِرًّا وَالْإِقْرَارُ يَجْرِي فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ لَكِنَّهُ إقْرَارٌ فِيهِ شُبْهَةُ الْبَذْلِ فَلَا يَثْبُتُ بِهِ مَا يَسْقُطُ بِالشُّبُهَاتِ كَالْحُدُودِ وَاللِّعَانِ.

أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَا تَثْبُتُ بِالشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ وَلَا بِكِتَابِ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي وَلَا بِشَهَادَةِ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ لِمَا فِيهَا مِنْ الشُّبُهَاتِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ نُكُولَهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَاذِبٌ فِي الْإِنْكَارِ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا نَكَلَ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ الصَّادِقَةَ فِيهَا الثَّوَابُ بِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى وَجْهِ التَّعْظِيمِ وَصِيَانَةُ مَالِهِ وَعِرْضِهِ بِدَفْعِ تُهْمَةِ الْكَذِبِ عَنْ نَفْسِهِ، وَالْعَاقِلُ يَمِيلُ إلَى مِثْلِ هَذِهِ وَالْيَمِينُ الْكَاذِبَةُ فِيهَا هَلَاكُ النَّفْسِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أَعْرَضَ عَنْهَا مَخَافَةَ الْهَلَاكِ وَمُخَالَفَةً لِهَوَاهُ وَشُحِّ نَفْسِهِ وَإِيثَارًا لِلرُّجُوعِ إلَى الْحَقِّ إذْ هُوَ أَوْلَى مِنْ التَّمَادِي عَلَى الْبَاطِلِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: ٩] فَيَكُونُ إقْرَارًا ضَرُورَةً وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ بَذْلٌ وَإِبَاحَةٌ وَهَذِهِ الْحُقُوقُ لَا يَجْرِي فِيهَا الْبَذْلُ وَالْإِبَاحَةُ فَلَا يُقْضَى بِهَا بِالنُّكُولِ كَالْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ وَكَالْحُدُودِ وَاللِّعَانِ وَفِي حَمْلِهِ عَلَى الْبَذْلِ صِيَانَةُ عِرْضِهِ عَنْ الْكَذِبِ فَكَانَ أَوْلَى وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ إلَّا فِي مَجْلِسِ الْقَاضِي وَقَضَائِهِ وَلَوْ كَانَ إقْرَارًا لَجَازَ مُطْلَقًا بِدُونِ الْقَضَاءِ وَكَذَا لَوْ كَفَلَ رَجُلٌ لِرَجُلٍ بِمَا يُقِرُّ لَهُ بِهِ فُلَانٌ فَادَّعَى الْمَكْفُولُ لَهُ عَلَى فُلَانٍ دَيْنًا فَاسْتَحْلَفَهُ فَنَكَلَ لَا يَجِبُ عَلَى الْكَفِيلِ شَيْءٌ، وَلَوْ كَانَ إقْرَارًا لَوَجَبَ عَلَيْهِ وَكَذَا لَوْ اشْتَرَى نِصْفَ عَبْدٍ ثُمَّ اشْتَرَى نِصْفَهُ الْبَاقِيَ فَوَجَدَ بِهِ عَيْبًا فَخَاصَمَهُ فِي النِّصْفِ الْأَوَّلِ فَاسْتَحْلَفَهُ فَنَكَلَ فَقُضِيَ عَلَيْهِ بِالرَّدِّ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَرُدَّ النِّصْفَ الْآخَرَ يَحْتَاجُ إلَى خُصُومَةٍ وَاسْتِحْلَافٍ جَدِيدٍ إذَا أَنْكَرَ، وَلَوْ كَانَ إقْرَارًا لَمَا اسْتَحْلَفَ ثَانِيًا بَلْ كَانَ يَلْزَمُهُ كُلُّهُ بِالنُّكُولِ الْأَوَّلِ وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْيَمِينَ وَاجِبَةٌ مَعَ الْبَذْلِ فَلَا يَكُونُ تَارِكًا لِلْوَاجِبِ بِهِ.

وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ تَجِبُ عَلَيْهِ إذَا طَلَبَ تَحْلِيفَهُ لِتَنْتَهِيَ بِهِ الْخُصُومَةُ وَمَعَ الْبَذْلِ لَا خُصُومَةَ وَلَا طَلَبَ فَلَا تَجِبُ، وَإِنَّمَا جَازَ مِنْ الْمُكَاتَبِ وَالْعَبْدِ وَالصَّبِيِّ الْمَأْذُونِ لَهُمَا؛ لِأَنَّ فِيهِ ضَرُورَةً فَيَدْخُلُ تَحْتَ الْإِذْنِ فِي التِّجَارَةِ كَمَا تَدْخُلُ الضِّيَافَةُ الْيَسِيرَةُ وَالْهَدِيَّةُ الْيَسِيرَةُ لِلضَّرُورَةِ إذْ لَا بُدَّ لِلتُّجَّارِ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا جَازَ فِي الدَّيْنِ بِنَاءً عَلَى دَعْوَى الْمُدَّعِي وَمَعْنَى الْبَذْلِ تَرْكُ الْمَنْعِ وَتَرْكُ الْمَنْعِ جَائِزٌ فِي الْمَالِ؛ لِأَنَّ أَمْرَ الْمَالِ هَيِّنٌ بِخِلَافِ الْأَشْيَاءِ السَّبْعَةِ، وَإِنَّمَا وَجَبَ عَلَى الْقَاضِي أَنْ يَقْضِيَ بِالنُّكُولِ بِحُكْمِ الشَّرْعِ لِمَا أَنَّ الْمُدَّعِيَ كَانَ لَهُ الشَّيْءُ الْمُدَّعَى ظَاهِرًا وَأَبْطَلَهُ الْمُنْكِرُ بِالنِّزَاعِ وَالشَّرْعُ أَبْطَلَ نِزَاعَهُ إلَى الْيَمِينِ، فَإِذَا امْتَنَعَ الْيَمِينُ عَادَ الْأَصْلُ بِحُكْمِ الشَّرْعِ، وَإِنَّمَا صَحَّ إيجَابُهُ فِي الذِّمَّةِ ابْتِدَاءً بِنَاءً عَلَى زَعْمِ الْمُدَّعِي أَنَّهُ مُحِقٌّ وَأَنَّ مَعْنَى الْبَذْلِ تَرْكُ الْمَنْعِ وَلَئِنْ كَانَ بَذْلًا حَقِيقَةً فَالْمَالُ يَجِبُ فِيهِ فِي الذِّمَّةِ ابْتِدَاءً كَالْكَفَالَةِ وَالْحَوَالَةِ، وَإِنَّمَا وَجَبَ الْقِصَاصُ بِهِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ؛ لِأَنَّ مَا دُونَ النَّفْسِ يُسْلَكُ بِهِ مَسْلَكُ الْأَمْوَالِ فَيَجُوزُ بَذْلُهُ إذَا كَانَ مُفِيدًا أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ قَطْعُ يَدِهِ الْمُتَآكِلَةِ لِلْفَائِدَةِ فَكَذَا يَجُوزُ بَذْلُهُ لِدَفْعِ الْيَمِينِ عَنْ نَفْسِهِ وَأَيُّ فَائِدَةٍ أَعْظَمُ مِنْهُ وَلِهَذَا نَكَلَ عُثْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ الصَّادِقَةِ عَلَى مَا بَيَّنَّا فَهَذَا هُوَ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ فِي الْيَمِينِ صِيَانَةُ مَالِهِ وَعِرْضِهِ إلَى آخِرِهِ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ فِي مُشَاعٍ يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِبَذْلٍ صَرِيحًا، وَإِنَّمَا صَارَ

ــ

[حاشية الشِّلْبِيِّ]

ادَّعَى الرَّجُلُ النِّكَاحَ وَأَنْكَرَتْ الْمَرْأَةُ أَوْ بِالْعَكْسِ أَوْ ادَّعَى الرَّجُلُ بَعْدَ الطَّلَاقِ وَانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ الرَّجْعَةَ فِي الْعِدَّةِ وَأَنْكَرَتْ الْمَرْأَةُ أَوْ بِالْعَكْسِ أَوْ ادَّعَى الرَّجُلُ بَعْدَ انْقِضَاءِ مُدَّةِ الْإِيلَاءِ الْفَيْءَ فِي الْمُدَّةِ وَأَنْكَرَتْ الْمَرْأَةُ أَوْ بِالْعَكْسِ أَوْ ادَّعَى الرَّجُلُ عَلَى مَجْهُولٍ النَّسَبَ أَنَّهُ عَبْدُهُ أَوْ وَلَدُهُ وَأَنْكَرَ الْمَجْهُولُ أَوْ بِالْعَكْسِ أَوْ اخْتَصَمَا فِي وَلَاءِ الْعَتَاقَةِ أَوْ وَلَاءِ الْمُوَالَاةِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَوْ ادَّعَتْ الْأَمَةُ عَلَى مَوْلَاهَا أَنَّهَا وَلَدَتْ مِنْهُ وَلَدًا أَوْ ادَّعَاهَا وَقَدْ مَاتَ الْوَلَدُ وَلَا يَجْرِي فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْعَكْسُ لِأَنَّ الْمَوْلَى إذَا ادَّعَى ذَلِكَ تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ بِإِقْرَارِهِ وَلَا اعْتِبَارَ بِإِنْكَارِ الْأَمَةِ. اهـ. (قَوْلُهُ فِي الْمَتْنِ وَحَدٌّ وَلِعَانٌ) كَمَا إذَا ادَّعَى عَلَى آخَرَ أَنَّك قَذَفْتَنِي بِالزِّنَا وَعَلَيْك الْحَدُّ لَا يُسْتَحْلَفُ بِالْإِجْمَاعِ وَكَذَا إذَا ادَّعَتْ الْمَرْأَةُ عَلَى الزَّوْجِ أَنَّك قَذَفْتَنِي بِالزِّنَا وَعَلَيْك اللِّعَانُ. اهـ. صَدْرُ الشَّرِيعَةِ سَيَأْتِي عِنْدَ قَوْلِهِ فِي الْمَتْنِ وَيُسْتَحْلَفُ السَّارِقُ إلَخْ حَاشِيَةً نَافِعَةً هُنَا فَرَاجِعْهَا وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ (قَوْلُهُ: قَالَ الْقَاضِي الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ) الْمُرَادُ بِهِ قَاضِي خَانْ كَذَا فِي شَرْحَيْ الْمَجْمَعِ وَغَيْرِهِمَا اهـ.

(قَوْلُهُ: يُسْتَحْلَفُ الْمُنْكِرُ فِي الْأَشْيَاءِ السِّتَّةِ) النَّسَبُ وَالِاسْتِيلَادُ شَيْءٌ وَاحِدٌ فَلِذَا قَالَ فِي الْأَشْيَاءِ السِّتَّةِ اهـ لَكِنَّ الشَّارِحَ بَعْدَ قَوْلِهِ فِي الشَّرْحِ وَمَعْنَى الْبَذْلِ إلَخْ قَالَ بِخِلَافِ الْأَشْيَاءِ السَّبْعَةِ (قَوْلُهُ: وَلَا يَجُوزُ بَذْلُهُ) إذْ الْبَذْلُ إنَّمَا يَكُونُ فِي الْأَعْيَانِ. اهـ. (قَوْلُهُ: وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ) أَيْ النُّكُولُ. اهـ. (قَوْلُهُ: فَلَا يُقْضَى فِيهَا) الَّذِي بِخَطِّ الشَّارِحِ فَلَا يُقْضَى بِهَا بِالنُّكُولِ. اهـ. (قَوْلُهُ: وَإِنَّمَا جَازَ) هَذَا جَوَابٌ عَنْ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ تَقْدِيرُهُ لَوْ كَانَ بَذْلًا لَمَا مَلَكَهُ الْمُكَاتَبُ وَأَخَوَاهُ لِأَنَّ فِيهِ مَعْنَى التَّبَرُّعِ وَهُمْ لَا يَمْلِكُونَهُ فَأَجَابَ بِمَا ذَكَرَ مِنْ أَنَّهُ مِنْ ضَرُورَةِ التِّجَارَةِ. اهـ. (قَوْلُهُ: عَنْ قَوْلِهِمْ) كَذَا بِخَطِّ الشَّارِحِ وَصَوَابُهُ عَنْ قَوْلِهِمَا اهـ

<<  <  ج: ص:  >  >>