للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إلَى أَنَّهُ إذَا كَانَ مُنْفَصِلًا لَا يَصِحُّ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ جَوَّزَهُ فِي الْمَجْلِسِ وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ جَوَازُهُ إلَى سَنَةٍ وَعَنْهُ جَوَازُهُ أَبَدًا؛ لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ «وَاَللَّهِ لَأَغْزُوَنَّ قُرَيْشًا ثَلَاثًا ثُمَّ سَكَتَ ثُمَّ قَالَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى»

وَلَنَا قَوْله تَعَالَى {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ} [المائدة: ٨٩] الْآيَةَ وَلَوْ جَازَ الِاسْتِثْنَاءُ مُنْفَصِلًا لَمَا كَانَ لِإِيجَابِهَا مَعْنًى؛ لِأَنَّهُ كَانَ يَسْتَثْنِي فِي يَمِينِهِ، وَكَذَا قَوْله تَعَالَى {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: ٢٣٠] فَلَوْ جَازَ مُنْفَصِلًا لَمَا كَانَ لِهَذَا مَعْنًى وَلَكَانُوا يَسْتَثْنُونَ إذَا طَلَّقُوا نِسَاءَهُمْ بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا بَلْ بَعْدَ مَا تَزَوَّجَتْ وَوَلَدَتْ وَلَا كَانَ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَنْ أَقَالَ نَادِمًا بَيْعَتَهُ» الْحَدِيثَ مَعْنًى؛ لِأَنَّهُ كَانَ يَسْتَثْنِي إذَا نَدِمَ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى رِضَا الْآخَرِ

وَكَذَا قَالَ «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ»، وَلَوْ جَازَ مُنْفَصِلًا لَأَمَرَهُ بِهِ وَلَمَا وَجَبَتْ الْكَفَّارَةُ أَبَدًا وَرُوِيَ أَنَّ امْرَأَةً أَنْكَرَتْ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فِي ذَلِكَ، وَقَالَتْ لَوْ كَانَ مَا قَالَهُ جَائِزًا لَمْ يَكُنْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ} [ص: ٤٤] مَعْنًى وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا جَعْفَرٍ الْمَنْصُورَ دَعَا أَبَا حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَالَ لَهُ لِمَ خَالَفْت جَدِّي فِي الِاسْتِثْنَاءِ فَقَالَ لَهُ لِحِفْظِ الْخِلَافَةِ عَلَيْك فَإِنَّك تَأْخُذُ عَقْدَ الْبَيْعَةِ بِالْأَيْمَانِ وَالْعُهُودِ الْمُوَثَّقَةِ عَلَى وُجُوهِ الْعَرَبِ وَسَائِرِ النَّاسِ فَيَخْرُجُونَ مِنْ عِنْدِك وَيَسْتَثْنُونَ فَيَخْرُجُونَ عَلَيْك فَقَالَ أَحْسَنْت فَاسْتُرْ عَلَيَّ وَخَلَّى سَبِيلَهُ ثُمَّ إذَا سَكَتَ قَدْرَ مَا يَتَنَفَّسُ أَوْ تَجَشَّأَ أَوْ كَانَ بِلِسَانِهِ ثِقَلٌ وَطَالَ فِي تَرَدُّدِهِ ثُمَّ قَالَ إنْ شَاءَ اللَّهُ صَحَّ اسْتِثْنَاؤُهُ

وَلَوْ أَرَادَ أَنْ يَسْتَثْنِيَ فَسَدَّ إنْسَانٌ فَمَهُ فَمَنَعَهُ ثُمَّ رَفَعَ يَدَهُ عَنْهُ وَاسْتَثْنَى مُتَّصِلًا بِرَفْعِهِ صَحَّ الِاسْتِثْنَاءُ، وَلَوْ جَرَى عَلَى لِسَانِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ وُجِدَ حَقِيقَةً وَهُوَ صَرِيحٌ فِي بَابِهِ فَلَا يَفْتَقِرُ إلَى النِّيَّةِ كَقَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ التَّعْلِيقُ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى إعْدَامٌ وَإِبْطَالٌ لَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ هُوَ تَعْلِيقٌ بِشَرْطٍ إلَّا أَنَّ الشَّرْطَ لَا يُوقَفُ عَلَيْهِ فَلَا يَقَعُ كَمَا لَوْ عَلَّقَهُ بِمَشِيئَةِ غَائِبٍ إذَا بَلَغَهُ وَشَاءَ فِي مَجْلِسِهِ يَقَعُ، وَلِهَذَا شَرَطَ أَنْ يَكُونَ مُتَّصِلًا كَسَائِرِ الشُّرُوطِ لَهُمَا أَنَّ مَعْنَاهُ رَفْعُ الْحُكْمِ وَإِعْدَامُهُ مِنْ الْأَصْلِ،

وَهَذَا لِأَنَّ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ وَإِنْ كَانَ إعْدَامًا لِلْحَالِ لَكِنْ لَهُ عَرْضِيَّةُ الْوُجُودِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ وَهَذَا إعْدَامٌ لِحُكْمِ الْكَلَامِ أَصْلًا إذْ لَا طَرِيقَ لِلْوُصُولِ إلَى مَعْرِفَةِ مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَكَانَ إبْطَالًا فَأَبُو يُوسُفَ

ــ

[حاشية الشِّلْبِيِّ]

قَوْلُهُ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ جَوَّزَهُ فِي الْمَجْلِسِ) أَيْ وَقَاسُوا عَلَى التَّخْصِيصِ الْمُتَرَاخِيَ فَقَالَ ذَلِكَ جَائِزٌ بِطَرِيقِ الْبَيَانِ فَكَذَا قُلْنَا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الرِّوَايَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ صَحِيحَةٌ فَكَيْفَ يُقَالُ هَذَا وَهُوَ مِنْ أَفْصَحِ أَهْلِ اللِّسَانِ وَهُمْ لَمْ يَسْتَعْمِلُوا مِثْلَ هَذَا قَطُّ حَتَّى لَوْ قَالَ أَحَدٌ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ ثُمَّ اسْتَثْنَى مِنْهُ قَدْرًا مَعْلُومًا بَعْدَ يَوْمٍ يَسْخَرُ مِنْهُ وَيَضْحَكُ بِخِلَافِ التَّخْصِيصِ الْمُتَرَاخِي فَإِنَّهُ يُسْتَعْمَلُ عِنْدَهُمْ أَنْ يَذْكُرَ اللَّفْظَ عَامًّا ثُمَّ يَقُولَ الْمُتَكَلِّمُ بِهِ بَعْدَ زَمَانٍ إنَّ مُرَادِيَ كَانَ بِهِ ذَلِكَ الشَّيْءُ الْخَاصُّ فَبَطَلَ الْقِيَاسُ لِلْفَرْقِ وَأَيْضًا التَّخْصِيصُ إنَّمَا يَكُونُ بِالنَّصِّ الْمُنْفَصِلِ الْقَائِمِ بِنَفْسِهِ بِخِلَافِ الِاسْتِثْنَاءِ فَإِنَّهُ لَا صِحَّةَ لَهُ مَا لَمْ يَكُنْ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ وَلَا يُقَالُ قَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «لَأَغْزُوَنَّ قُرَيْشًا ثُمَّ قَالَ بَعْدَ سَنَةٍ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى»؛ لِأَنَّا نَقُولُ لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ صَحِيحٌ وَلَئِنْ صَحَّ فَنَقُولُ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ كَانَ مِنْ قَوْلِهِ «لَأَغْزُوَنَّ قُرَيْشًا» الَّذِي سَبَقَ قَبْلَ سَنَةٍ؛ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ كَانَ مِنْ كَلَامٍ آخَرَ مُتَّصِلٍ بِهِ وَلَئِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ كَانَ مِنْهُ لَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ قَصْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إلَى الِاسْتِثْنَاءِ فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَصْدُهُ إلَى اسْتِدْرَاكِ الْمَأْمُورِ بِهِ الْفَائِتِ فِي قَوْله تَعَالَى {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا - إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف: ٢٣ - ٢٤]. اهـ. أَتْقَانِيٌّ. (قَوْلُهُ، وَلَوْ جَرَى عَلَى لِسَانِهِ إلَخْ) قَالَ الْكَمَالُ وَلَا يَفْتَقِرُ إلَى النِّيَّةِ حَتَّى لَوْ جَرَى عَلَى لِسَانِهِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ لَا يَقَعُ وَحُكِيَ فِيهِ عِنْدَنَا خِلَافٌ، قَالَ خَلَفٌ يَقَعُ، وَقَالَ شَدَّادٌ لَا يَقَعُ وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ الْمَذْهَبِ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ مَعَ الِاسْتِثْنَاءِ لَيْسَ طَلَاقًا، وَقَالَ رَأَيْت أَبَا يُوسُفَ فِي النَّوْمِ فَسَأَلْته فَقَالَ لَا يَقَعُ فَقُلْت لِمَ قَالَ أَرَأَيْت لَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ فَجَرَى عَلَى لِسَانِهِ أَوْ غَيْرُ طَالِقٍ أَكَانَ يَقَعُ قُلْت لَا قَالَ كَذَا هُنَا، وَكَذَا لَمْ يَرِدْ مَا هُوَ إنْ شَاءَ اللَّهُ لِمَا ذَكَرْنَا وَصَارَ كَسُكُوتِ الْبِكْرِ إذَا زَوَّجَهَا أَبُوهَا فَسَكَتَتْ وَلَا تَدْرِي أَنَّ السُّكُوتَ رِضًا يَمْضِي بِهِ الْعَقْدُ عَلَيْهَا وَفِي خَارِجِ الْمَذْهَبِ خِلَافٌ فِي النِّيَّةِ قِيلَ يُشْتَرَطُ نِيَّةُ الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ أَوَّلِ الْكَلَامِ وَقِيلَ قَبْلَ فَرَاغِهِ وَقِيلَ، وَلَوْ بَعْدَ فَرَاغِهِ وَقِيلَ وَلَوْ بِالْقُرْبِ مِنْ الْكَلَامِ وَلَا يُشْتَرَطُ اتِّصَالُهَا بِهِ. اهـ. كَمَالٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. (قَوْلُهُ لَا يَقَعُ) وَمِمَّنْ نَصَّ عَلَى عَدَمِ وُقُوعِهِ الْحُسَامُ الشَّهِيدُ فِي الْوَقَعَاتِ وَصَاحِبُ الْغَايَةِ وَصَاحِبُ الِاخْتِيَارِ وَغَيْرُهُ اهـ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (قَوْلُهُ ثُمَّ التَّعْلِيقُ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى إعْدَامٌ) قَالَ الْأَتْقَانِيُّ عِنْدَ قَوْلِهِ فِي الْهِدَايَةِ فَيَكُونُ إعْدَامًا مِنْ الْأَصْلِ أَيْ يَكُونُ التَّعْلِيقُ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى إعْدَامًا مِنْ الِابْتِدَاءِ لِعَدَمِ الْعِلْمِ بِالْمَشِيئَةِ فَصَارَ كَأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ أَنْتِ طَالِقٌ أَصْلًا اهـ ثُمَّ قَالَ الْأَتْقَانِيُّ ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ كَوْنَهُ إعْدَامًا عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِثْنَاءِ عِنْدَهُ وَكَوْنَهُ شَرْطًا عَلَى مَذْهَبِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَلِهَذَا قَالَ فِي الْفَتَاوَى الصُّغْرَى إذَا قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ فَهُوَ يَمِينٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ حَتَّى لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ إنْ حَلَفْت بِطَلَاقِك فَأَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ قَالَ لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى يَحْنَثُ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَكُونُ يَمِينًا حَتَّى لَا يَحْنَثَ بِهِ عِنْدَهُ. اهـ. وَظَاهِرُهُ أَنْ لَا قَوْلَ لِلْإِمَامِ فِي كَوْنِهِ إبْطَالًا أَوْ تَعْلِيقًا وَالْأَكْمَلُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَمْ يَنْصِبْ الْخِلَافَ إلَّا بَيْنَ الصَّاحِبَيْنِ فَقَطْ كَمَا مَشَى عَلَيْهِ الْأَتْقَانِيُّ وَقَدْ حَكَى الْكَمَالُ الْخِلَافَ كَمَا هُنَا اهـ. (قَوْلُهُ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ هُوَ تَعْلِيقٌ إلَخْ) مُلَاحَظَةٌ لِلصِّيغَةِ وَهُمَا لَاحَظَا الْمَعْنَى وَهُوَ أَوْلَى وَقَدْ نُقِلَ الْخِلَافُ بَيْنَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ عَلَى عَكْسِهِ. اهـ. فَتْحٌ. (قَوْلُهُ كَمَا لَوْ عَلَّقَهُ بِمَشِيئَةِ غَائِبٍ) يُوجَدُ فِي بَعْضِ النُّسَخِ عَقِبَ قَوْلِهِ بِمَشِيئَةِ غَائِبٍ إذَا بَلَغَهُ وَشَاءَ فِي مَجْلِسِهِ يَقَعُ اهـ. (قَوْلُهُ فَكَانَ إبْطَالًا) قَالَ الْكَمَالُ.

<<  <  ج: ص:  >  >>