قَوْمًا قَطُّ إلَّا دَعَاهُمْ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِفَرْوَةِ بْنِ الْمُسَيْكِ «لَا تُقَاتِلُهُمْ حَتَّى تَدْعُوهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ» رَوَاهُ أَحْمَدُ قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (فَإِنْ أَسْلَمُوا وَإِلَّا إلَى الْجِزْيَةِ) أَيْ فَإِنْ أَسْلَمُوا كَفَفْنَا عَنْ قِتَالِهِمْ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ وَقَدْ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنَى دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ» وَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُؤْمِنَ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنَّمَا اكْتَفَى فِي الْحَدِيثِ بِكَلِمَةِ التَّوْحِيدِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ الشِّرْكَ فَإِذَا وَحَّدُوا عُلِمَ بِذَلِكَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَنَّهُمْ لَمْ يَعْرِفُوا ذَلِكَ إلَّا مِنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَقَوْلُهُ وَإِلَّا إلَى الْجِزْيَةِ أَيْ إنْ لَمْ يَقْبَلُوا الْإِسْلَامَ نَدْعُوهُمْ إلَى أَدَاءِ الْجِزْيَةِ لِمَا رُوِيَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَانَ إذَا أَمَّرَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ أَوْ سَرِيَّةٍ أَمَرَهُ بِهِ فِي حَدِيثٍ فِيهِ طُولٌ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ وَلِأَنَّهُ آخِرُ مَا يَنْتَهِي بِهِ الْقِتَالُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: ٢٩] فَوَجَبَتْ الدَّعْوَةُ إلَيْهِ كَمَا تَجِبُ إلَى الْإِسْلَامِ وَهَذَا فِي حَقِّ مَنْ تُقْبَلُ مِنْهُ الْجِزْيَةُ كَأَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمَجُوس وَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ مِنْ الْعَجَمِ وَأَمَّا مَنْ لَا تُقْبَلُ مِنْهُ كَالْمُرْتَدِّينَ وَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ مِنْ الْعَرَبِ فَلَا نَدْعُوهُمْ إلَى أَدَاءِ الْجِزْيَةِ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ إذْ لَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ إلَّا الْإِسْلَامُ قَالَ تَعَالَى {تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} [الفتح: ١٦] قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (فَإِنْ قَبِلُوا فَلَهُمْ مَا لَنَا وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَيْنَا) أَيْ إنْ قَبِلُوا أَدَاءَ الْجِزْيَةِ لِقَوْلِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إنَّمَا بَذَلُوا الْجِزْيَةَ لِتَكُونَ دِمَاؤُهُمْ كَدِمَائِنَا وَأَمْوَالُهُمْ كَأَمْوَالِنَا وَمُرَادُهُ بِالْبَذْلِ الْقَبُولُ وَكَذَا بِالْإِعْطَاءِ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ لِأَنَّ الْعِصْمَةَ تَحْصُلُ لَهُمْ قَبْلَ أَدَائِهَا بِمُجَرَّدِ الْقَبُولِ قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -
(وَلَا نُقَاتِلُ مَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ إلَى الْإِسْلَامِ) لِمَا رَوَيْنَا وَلِأَنَّهُمْ بِالدَّعْوَةِ إلَيْهِ يَعْلَمُونَ أَنَّا نُقَاتِلُهُمْ عَلَى الدِّينِ لَا عَلَى شَيْءٍ آخَرَ مِنْ الذَّرَارِيّ وَسَلْبِ الْأَمْوَالِ فَلَعَلَّهُمْ يُجِيبُونَ فَيَحْصُلُ الْمَقْصُودُ بِلَا قِتَالٍ وَمَنْ قَاتَلَهُمْ قَبْلَ الدَّعْوَةِ يَأْثَمُ لِلنَّهْيِ عَنْهُ وَلَا يَغْرَمُ لِأَنَّهُمْ غَيْرُ مَعْصُومِينَ بِالدِّينِ أَوْ الْإِحْرَازِ بِالدِّيَارِ فَصَارَ كَقَتْلِ مَنْ لَا يُقَاتِلُ مِنْهُمْ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ يَضْمَنُونَ وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ مَا بَيَّنَّا قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَنَدْعُو نَدْبًا مَنْ بَلَغَتْهُ) أَيْ نَدْعُو اسْتِحْبَابًا مَنْ بَلَغَتْهُ الدَّعْوَةُ مُبَالَغَةً فِي الْإِنْذَارِ وَلَا يَجِبُ ذَلِكَ لِمَا رُوِيَ عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ أَنَّهُ قَالَ «بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَهْطًا مِنْ الْأَنْصَارِ إلَى أَبِي رَافِعٍ فَدَخَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَتِيكٍ بَيْتَهُ لَيْلًا فَقَتَلَهُ وَهُوَ نَائِمٌ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَقَالَ فِي الْمُحِيطِ قَالُوا تَقْدِيمُ الدَّعْوَةِ إلَى الْإِسْلَامِ عَلَى الْقِتَالِ كَانَ فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ حِينَ لَمْ يَنْتَشِرْ الْإِسْلَامُ وَلَمْ يَسْتَفِضْ وَأَمَّا بَعْدَ مَا انْتَشَرَ وَاسْتَفَاضَ وَعَرَفَ كُلُّ مُشْرِكٍ إلَى مَاذَا يُدْعَى يَحِلُّ لَهُ الْقِتَالُ قَبْلَ الدَّعْوَةِ وَيَقُومُ ظُهُورُ الدَّعْوَةِ وَشُيُوعُهَا مَقَامَ دَعْوَةِ كُلِّ مُشْرِكٍ وَهَذَا صَحِيحٌ ظَاهِرٌ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَوْنٍ أَنَّهُ قَالَ كَتَبْت إلَى نَافِعٍ أَسْأَلُهُ عَنْ الدُّعَاءِ قَبْلَ الْقِتَالِ فَكَتَبَ إنَّمَا كَانَ ذَلِكَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ وَقَدْ «أَغَارَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى بَنِي الْمُصْطَلِقِ وَهُمْ غَارُّونَ وَأَنْعَامُهُمْ تُسْقَى عَلَى الْمَاءِ فَقَتَلَ مُقَاتِلَهُمْ وَسَبَى ذَرَارِيَّهُمْ وَأَصَابَ يَوْمئِذٍ جَوَيْرِيَةَ ابْنَةَ الْحَارِثِ حَتَّى حَدَّثَنِي بِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَكَانَ فِي ذَلِكَ الْجَيْشِ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالْبُخَارِيُّ وَعَنْ أَنَسٍ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا غَزَا قَوْمًا لَمْ يَغُرْ حَتَّى يُصْبِحَ فَإِنْ سَمِعَ أَذَانًا أَمْسَكَ وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْ أَغَارَ بَعْدَ مَا يُصْبِحُ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَالْإِغَارَةُ لَا تَكُونُ بَعْدَ الْإِعْلَامِ فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ فِي زَمَنِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِاشْتِهَارِ الْإِسْلَامِ فَمَا ظَنُّك فِي زَمَانِنَا وَقَدْ اشْتَهَرَ وَبَلَغَ الْمَشْرِقَ وَالْمَغْرِبَ فَلَا تَجِبُ الدَّعْوَةُ بَعْدَ عِلْمِهِمْ بِالْعِنَادِ وَلِأَنَّهُمْ لَوْ اشْتَغَلُوا بِالدَّعْوَةِ رُبَّمَا يَتَحَصَّنُونَ فَلَا يَقْدِرُ عَلَيْهِمْ قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -
(وَإِلَّا نَسْتَعِينُ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَنُحَارِبُهُمْ بِنَصْبِ الْمَجَانِيقِ وَحَرْقِهِمْ وَغَرْقِهِمْ وَقَطْعِ أَشْجَارِهِمْ وَإِفْسَادِ زُرُوعِهِمْ وَرَمْيِهِمْ وَإِنْ تَتَرَّسُوا بِبَعْضِنَا وَنَقْصِدُهُمْ) أَيْ إنْ لَمْ يَقْبَلُوا الْجِزْيَةَ نَسْتَعِينُ بِاَللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ وَنُحَارِبُهُمْ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي ذَكَرَهَا وَبِكُلٍّ مِمَّنْ فِيهِ كَسْرُ شَوْكَتِهِمْ وَإِلْحَاقُ الضَّرَرِ بِهِمْ لِمَا رُوِيَ أَنَّهُ «- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَانَ يَقُولُ فِي وَصِيَّةِ أَمِيرِ الْجَيْشِ فَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَاسْأَلْهُمْ الْجِزْيَةَ فَإِنْ أَجَابُوك فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ فَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَاسْتَعِنْ بِاَللَّهِ عَلَيْهِمْ وَقَاتِلْهُمْ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَلِأَنَّهُ تَعَالَى هُوَ النَّاصِرُ لِأَوْلِيَائِهِ وَالْمُدَمِّرُ عَلَى أَعْدَائِهِ فَيُسْتَعَانُ بِهِ فِي كُلِّ الْأُمُورِ وَيُقَاتِلُ بِكُلِّ مَا يُمْكِنُ لِمَا رَوَى التِّرْمِذِيُّ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَصَبَ الْمَنْجَنِيقَ عَلَى أَهْلِ الطَّائِفِ
ــ
[حاشية الشِّلْبِيِّ]
{ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا} [الإسراء: ١٥] لَكِنَّ هَذَا فِيمَا إذَا لَمْ تَبْلُغْهُمْ الدَّعْوَةُ فَإِذَا بَلَغَتْهُمْ فَلَا حَاجَةَ إلَى تَجْدِيدِ الدَّعْوَةِ أَلَا تَرَى إلَى مَا رَوَى صَاحِبُ السُّنَنِ أَنَّ «نَبِيَّ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَغَارَ عَلَى بَنِي الْمُصْطَلِقِ وَهُمْ غَارُّونَ وَأَنْعَامُهُمْ تُسْقَى عَلَى الْمَاءِ فَقَتَلَ مُقَاتِلَتَهُمْ وَسَبَى سَبْيَهُمْ وَأَصَابَ يَوْمَئِذٍ جُوَيْرِيَةَ بِنْتَ الْحَارِثِ» وَالْأَفْضَلُ تَكْرَارُ الدَّعْوَةِ وَأَمَّا الْأَمْرُ بِالْكَفِّ عَنْهُمْ إنْ أَجَابُوا إلَى الْإِسْلَامِ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة: ٥] وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلا عَلَى الظَّالِمِينَ} [البقرة: ١٩٣] وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْجِهَادِ إسْلَامُهُمْ وَقَدْ حَصَلَ. اهـ. أَتْقَانِيٌّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَسَيَجِيءُ جَمِيعُ هَذِهِ الْحَاشِيَةِ فِي الْمَتْنِ وَالشَّرْحِ اهـ (قَوْلُهُ إذْ لَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ إلَّا الْإِسْلَامُ) أَيْ أَنَّ السَّيْفَ. اهـ. (قَوْلُهُ بِمُجَرَّدِ الْقَبُولِ) أَيْ قَبْلَ وُجُودِ الْإِعْطَاءِ وَالْبَذْلِ بِالْإِجْمَاعِ. اهـ. أَتْقَانِيٌّ
(قَوْلُهُ فَصَارَ كَقَتْلِ مَنْ لَا يُقَاتِلُ مِنْهُمْ) أَيْ كَالنِّسْوَانِ وَالصِّبْيَانِ. اهـ. (قَوْلُهُ وَهُمْ غَارُّونَ) أَيْ غَافِلُونَ وَالْغُرَّةُ الْغَفْلَةُ. اهـ. كَيْ (قَوْلُهُ وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْ أَغَارَ إلَخْ) أَغَارُ عَلَى الْعَدُوِّ هَجَمَ عَلَيْهِمْ دِيَارَهُمْ وَأَوْقَعَ بِهِمْ. اهـ. مِصْبَاحٌ
(قَوْلُهُ وَإِنْ تَتَرَّسُوا) يُقَالُ تَتَرَّسَ بِالتُّرْسِ إذَا تَوَقَّى بِهِ. اهـ. أَتْقَانِيٌّ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute