فليتأمل العاقلُ هذا الموضع، وليُنْزِل نفسه منزلة من قد فاته أعظمُ محبوب، وأنفعُه، وهو أفقرُ شيءٍ، وأحوجُهُ إليه فواتًا لا يُرْجى تدارُكُه. وحصل على ضِدِّه، فيا لها من مصيبةٍ ما أوجعَها! وحالةٍ ما أفْظعها! فأين هذه الحال من حالة من يلتذُّ في الدُّنيا بكل ما يقصد به وجه الله سبحانه وتعالى من الأكل، والشُّرب، واللِّباس، [٦٠ ب] والنكاح، وشفاء الغيظ بقهر العدو، وجهادٍ في سبيله؟! فضلًا عمَّا يلتذُّ به من معرفة ربه، وحبِّه له، وتوحيده، والإنابة إليه، والتوكُّل عليه، والإقبال عليه، وإخلاص العمل له، والرِّضا به، وعنه، والتفويض إليه، وفرح القلب وسروره بقربه، والأنس به، والشوق إلى لقائه، كما في الحديث الذي صحَّحه ابن حِبَّان، والحاكم:«وأسألُك لذَّة النَّظرِ إلى وجْهِكَ، والشوق إلى لِقَائِكَ»(١).
وهذه اللذَّةُ لا تزال في الدُّنيا في زيادةٍ مع تنغيصها بالعدوِّ الباطن من الشيطان، والهوى، والنَّفس، والدُّنيا، والعدوِّ الظاهر، فكيف إذا تجرَّدت الروح، وفارقت دار الأحزان والآفات، واتَّصلت بالرفيق الأعلى {مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (٦٩) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا} [النساء/ ٦٩ ــ ٧٠].
(١) سبق تخريجه من حديث عمار. وهو في «صحيح ابن حبان» (١٩٧١)، و «المستدرك» (١/ ٥٢٤).