الباب الثامن والعشرون فيمن آثر عاجل العقوبة والآلام على لذَّة الوصال الحرام
هذا بابٌ إنَّما يدخل منه رجلان: أحدهما: من تمكَّن من قلبه الإيمان بالآخرة، وما أعدَّ الله فيها من الثواب والعقاب لمن عصاه، فآثر أدنى الفوتين، واختارَ أسهل العقوبتين. والثاني: رجلٌ غلب عقله على هواه، فعلم ما في الفاحشة من المفاسد، وما في العدول عنها من المصالح، فآثر الأعلى على الأدنى.
وقد جمع [١٧٥ أ] الله ــ سبحانه وتعالى ــ ليوسف الصِّدِّيق ــ صلواتُ الله وسلامه عليه ــ بين الأمرين، فاختار عقوبة الدُّنيا بالسجن على ارتكاب الحرام، فقالت المرأة: {وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ (٣٢) قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [يوسف/ ٣٢ ــ ٣٣] فاختار السِّجن على الفاحشة، ثمَّ تبرأ إلى الله من حوله وقوَّته، وأخبر أنَّ ذلك ليس إلَاّ بمعونة الله له، وتوفيقه، وتأييده، لا من نفسه، فقال:{وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ}[يوسف/ ٣٣].
فلا يركن العبد إلى نفسه، وصبره، وحاله، وعفَّته، ومتى ركن إلى ذلك تخلَّت عنه عصمة الله، وأحاط به الخذلان. وقد قال تعالى لأكرم الخلق عليه، وأحبِّهم إليه: {وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا