ومن غيْرَته سبحانه: غيرتُه على توحيده، ودينه، وكلامه أن يحظى به من ليس من أهله، بل حال بينهم وبينه؛ غيرةً عليه، قال تعالى:{وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا}[الأنعام/ ٢٥]، ولذلك ثبَّط سبحانه أعداءه عن متابعة رسوله، واللَّحاق به؛ غيرةً عليه، كما قال: {وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (٤٦) لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [التوبة/ ٤٦ ــ ٤٧] فغار سبحانه على نبيه وأصحابه أن يخرج بينهم المنافقون، فيسعوا بينهم بالفتنة، فثبَّطهم، وأقعدهم عنهم. وسمع الشِّبليُّ قارئًا يقرأ:{وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا}[الإسراء/ ٤٥] فقال: أتدرون ما هذا الحجاب؟ هذا حجابُ الغيرة، [١١٥ ب] ولا أحدٌ أغير من الله، يعني: أنَّه سبحانه لم يجعل الكفَّار أهلًا لمعرفته.
وهاهنا نوع من غيرة الربِّ تعالى لطيفٌ، لا تهتدي إليه العقول، وهو: أنَّ العبد يُفْتَحُ له بابٌ من الصَّفاء والأُنس، والوجود، فيساكنُه، ويطمئنُّ إليه، وتلتذُّ به نفسه، ويشتغل به عن المقصود، فيغار عليه مولاه الحقُّ، فيخليه منه، ويرُدُّه حينئذٍ إليه بالفقر، والذِّلَّة، والمسكنة، ويُشهده غاية فقره، وإعدامه، وأنَّه ليس معه من نفسه شيء ألبَتَّة، فتعود عزَّةُ ذلك