وَحَيْثُ استطرد الْقَلَم ذكر التتار وفعلهم الْقَبِيح فَلَا بَأْس يشْرَح حَالهم عَلَى الِاخْتِصَار ولنقتصر عَلَى الواقعتين العظيمتين وَاقعَة جنكزخان وحفيده هولاكو فَنَقُول
لما كَانَت سنة سِتّ عشرَة وسِتمِائَة كَانَ فِيهَا ظُهُور جنكزخان وَجُنُوده وعبورهم نهر جيحون وَهِي الْوَاقِعَة الَّتِي مَا سطر مثلهَا المؤرخون والمصيبة الَّتِي مَا عاينها الْأَولونَ والداهية الَّتِي مَا خطرت ببال والكاينة الَّتِي تكَاد ترجف عِنْدهَا الْجبَال أجمع النَّاس عَلَى أَن الْعَالم مذ خلق اللَّه تَعَالَى آدم إِلَى زمانها لم يبتلوا بِمِثْلِهَا وَأَن مَا فعله بخت نصر ببني إِسْرَائِيل من الْقَتْل وتخريب بَيت المنقدس يقصر عَن فعلهَا
قَالَ الْحَافِظ عز الدّين أَبُو الْحسن عَليّ بن مُحَمَّد بن الثير وَمَا الْبَيْت الْمُقَدّس بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا خرب هَؤُلَاءِ الملاعين من الْبِلَاد الَّتِي كل مَدِينَة مِنْهَا أَضْعَاف الْبَيْت الْمُقَدّس وَمَا بَنو إِسْرَائِيل بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا قتلوا فَإِن أهل مَدِينَة وَاحِدَة مِمَّن قتلوا أَضْعَاف بني إِسْرَائِيل وَلَعَلَّ الْخلق لَا يرَوْنَ مثل هَذِهِ الْحَادِثَة إِلَى أَن ينقرض الْعَالم وتنفى الدُّنْيَا إِلَّا يأجودج وَمَأْجُوج وَأما الدَّجَّال فَإِنَّهُ يبْقى عَلَى من ابتعه وَيهْلك من خَالفه وَهَؤُلَاء لم يبقوا عَلَى أحد بل قتلوا النِّسَاء وَالرِّجَال والأطفال وشقوا بطُون الْحَوَامِل وَقتلُوا الأجنة فَإنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون وَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه الْعلي الْعَظِيم
قلت وَحَيْثُ كُنَّا فِي أول فِي هَذَا الْكتاب ذكرنَا أَنه كتاب تَارِيخ وأدب وَفقه وَحَدِيث لَاق بِنَا أَن نشرح هَذَا الْأَمر الْعَظِيم عَلَى وَجه الِاخْتِصَار ونحكى هَذَا الْخطب الجسيم الَّذِي أظلم البصائر وأعمى الْأَبْصَار فَنَقُول
كَانَ القان الْأَعْظَم جنكزخان طاغية التتار وملكهم الأول الَّذِي خرب الْبِلَاد وأباد الْعباد يُسمى تموجين وَكَانُوا ببادية الصين وهم من أَصْبِر النَّاس عَلَى الْقِتَال وأشجعهم فملكوا جنكزخان عَلَيْهِم وأطاعوه طَاعَة الْعباد المخلصين لرب الْعَالمين
وَكَانَ مبدأ ملكه فِي سنة سبع وَتِسْعين وَخَمْسمِائة بعد وقائع اتّفقت لَهُ هُنَالك تقضى الْمَرْء عِنْد سماعهَا الْعجب العجاب لَا نرى التَّطْوِيل بشرحها
وَلَا زَالَ أمره يعظم وَيكبر وَكَانَ من أَعقل النَّاس وَأخْبرهمْ بالحروب وَوضع لَهُ شرعا اخترعه ودينا ابتدعه لَعنه الله الياسا لَا يحكمون إِلَّا بِهِ وَكَانَ كَافِرًا يعبد الشَّمْس
وَكَانَ السُّلْطَان الْأَعْظَم للْمُسلمين هُوَ السُّلْطَان عَلَاء الدّين خوارز مَشاهُ مُحَمَّد بْن تكش وَكَانَ ملكا عَظِيما اتسعت ممالكه وعظمت هيبته وأذعنت لَهُ الْعباد وَدخلت تَحت هكمه وخلت تِلْكَ الديار من ملك سواهُ لِأَنَّهُ قهر النَّاس كلهم وَصَارَ النَّاس كلهم تَحت حكمه رجلا فَاضلا كَرِيمًا حَلِيمًا خيرا وَكَانَ لَهُ عشرَة آلَاف مَمْلُوك كل مِنْهُم يصلح للْملك وَكَانَت عساكره عدد الْحَصَا لَا يعرف أَولهَا من آخرهَا فتجبر وطغى وَأرْسل إِلَى خَليفَة الْوَقْت وَهُوَ النَّاصِر لدين اللَّه الَّذِي لَا يصطلي لمكره بِنَار وَلَا يُعَامل فِي أَحْوَاله بخداع يَقُول لَهُ كن معي كَمَا كَانَت الْخُلَفَاء قبلك مَعَ سلاطين السلجوقية كألب رسْلَان وملكشاه وأقربهم بِنَا عهدا السُّلْطَان سنجر فَيكون أَمر بَغْدَاد وَالْعراق لي وَلَا يكون لَك إِلَّا الْخطْبَة فَيُقَال وَالله أعلم إِن الْخَلِيفَة جهز رسله إِلَى جنكزخان يحركه عَلَيْهِ
وَأما جنكزخان فَإِنَّهُ لما علم عَظمَة خوارزمشاه شرع فِي عقد التوادد بَينه وَبَينه علما من جنكزخان بِأَنَّهُ لَا يقدر عَلَى معاداة خوارزمشاه وَأرْسل إِلَيْهِ الْهَدَايَا المفتخرة والتقادم السّنيَّة كل ذَلِك وخوارزمشاه لَا يرضى باصطناعه وَيدل بِعظم ملكه ليقضي اللَّه أمرا كَانَ مَفْعُولا
وَجَرت فِي أثْنَاء ذَلِك فُصُول يطول شرحها آخرهَا أَن خوارزمشاه منع التُّجَّار أَن تسير من بِلَاده إِلَى بِلَاد جنكرخان فَانْقَطَعت أَخْبَار بِلَاده عَن جنكزخان زَمنا