للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فِي جِهَةٍ فَالْقَوْلُ بِأَنَّ مَا لَيْسَ فِي جِهَةٍ لَا يَكُونُ مَرْئِيًّا (١) يُقَابِلُ قَوْلَ الْقَائِلِ: كُلُّ مَوْجُودٍ مَرْئِيٌّ، وَدَلِيلُهَا مُضْمَرٌ فِيهَا وَتَقْدِيرُهُ أَنَّ انْتِفَاءَ الْجِهَةِ مَانِعٌ مِنَ الرُّؤْيَةِ.

وَأَمَّا إِنْ لَمْ يَكُنِ الدَّلِيلُ مُضْمَرًا فِيهَا، فَكَمَا لَوْ قَالَ الْقَائِلُ فِي مَسْأَلَةِ إِفْضَاءِ النَّظَرِ إِلَى الْعِلْمِ أَوْ فِي مَسْأَلَةِ التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ مَثَلًا، أَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ النَّظَرَ إِلَى الْعِلْمِ وَأَنَّ الْكُفْرَ قَبِيحٌ لِعَيْنِهِ وَالشُّكْرَ حَسَنٌ لِعَيْنِهِ.

فَقَالَ الْمُعْتَرِضُ: أَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ النَّظَرَ لَا يُفْضِي إِلَى الْعِلْمِ وَأَنَّ الْكُفْرَ لَيْسَ قَبِيحًا لِعَيْنِهِ وَلَا الشُّكْرَ لِعَيْنِهِ.

وَهَذَا هُوَ عَيْنُ مُقَابَلَةِ الْفَاسِدِ بِالْفَاسِدِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ اسْتِنْطَاقُ الْمُدَّعِي بِاسْتِحَالَةِ دَعْوَى الضَّرُورَةِ مِنْ خَصْمِهِ فِي مَحَلِّ الْخِلَافِ، فَيُقَالُ وَهَذَا لَازِمٌ لَكَ أَيْضًا.

وَقَدْ أَوْرَدَ الْجَدَلِيُّونَ فِي هَذَا الْبَابِ قَلْبَ الِاسْتِبْعَادِ فِي الدَّعْوَى، وَذَلِكَ كَمَا لَوْ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي مَسْأَلَةِ إِلْحَاقِ الْوَلَدِ بِأَحَدِ الْأَبَوَيْنِ الْمُدَّعِيَيْنِ: تَحْكِيمُ الْوَلَدِ فِي ذَلِكَ تَحَكُّمٌ بِلَا دَلِيلٍ. فَقَالَ الْحَنَفِيُّ: وَتَحْكِيمُ الْقَائِفِ فِي ذَلِكَ أَيْضًا تَحَكُّمٌ بِلَا دَلِيلٍ.


(١) لَمْ يَرِدْ فِي نُصُوصِ الشَّرِيعَةِ إِطْلَاقُ الْجِهَةِ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى إِثْبَاتًا وَلَا نَفْيًا؛ لِأَنَّهَا لَفْظٌ مُجْمَلٌ يَحْتَمِلُ حَقًّا وَبَاطِلًا؛ يَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ شَيْءٌ مَوْجُودٌ مَخْلُوقٌ، فَاللَّهُ لَيْسَ فِي جِهَةٍ بِهَذَا الْمَعْنَى؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَيْسَ فِي دَاخِلِ الْعَالَمِ وَلَا يُحِيطُ بِهِ شَيْءٌ مِنْ خَلْقِهِ، وَيُرَادُ بِهِ مَا وَرَاءَ الْعَالَمِ فَعَلَيْهِ يُقَالُ: اللَّهُ فَوْقَ عِبَادِهِ مُسْتَوٍ عَلَى عَرْشِهِ بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ، وَلَوِ اقْتَصَرَ مَنْ يَتَكَلَّمُ فِي التَّوْحِيدِ عَلَى مَا وَرَدَ مِنَ التَّعْبِيرِ فِي نُصُوصِ الشَّرِيعَةِ وَمَا عُرِفَ عَنِ السَّلَفِ الصَّالِحِ فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ لَكَانَ فِي ذَلِكَ عِصْمَةٌ لَهُمْ مِنْ زَلَلِ الرَّأْيِ وَالتَّوَسُّعِ فِي التَّعْبِيرِ، وَلَوِ اكْتَفَوْا فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى مَسَائِلِ الدِّينِ وَخَاصَّةً السَّمْعِيَّةَ بِمَا دَلَّهُمْ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ مِنَ الْأَدِلَّةِ السَّمْعِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ لَهُدُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ وَنَجَوْا مِنْ فِرْقَةِ الْأَهْوَاءِ، وَمِنَ الْحَيْرَةِ الَّتِي طَوَّحَتْ بِهِمْ فِي الْمَتَاهَاتِ انْظُرِ الْقَاعِدَةَ الثَّانِيَةَ فِي كِتَابِ التَّدْمُرِيَّةِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>