كَيْفَ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الْإِرْثَ فِي تَبْلِيغِ أَحْكَامِ الشَّرْعِ إِلَى الْعَامَّةِ، كَمَا كَانَ الْأَنْبِيَاءُ مُبَلِّغِينَ لِلْمَبْعُوثِ إِلَيْهِمْ.
وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الْإِرْثَ فِيمَا كَانَ لِلْأَنْبِيَاءِ فِي حِفْظِ قَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ.
وَأَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ مِنَ الْمَعْقُولِ: فَالثَّوَابُ فِيمَا عَظُمَتْ مَشَقَّتُهُ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ وَلَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ ثُبُوتُهُ لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَإِلَّا لَمَا سَاغَ لَهُ الْحُكْمُ إِلَّا بِالِاجْتِهَادِ تَحْصِيلًا لِزِيَادَةِ الثَّوَابِ، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ، وَاخْتِصَاصُ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ بِذَلِكَ دُونَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَا يُوجِبُ كَوْنِهِمْ أَفْضَلَ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ اخْتِصَاصِهِ بِمَنْصِبِ وَرُتْبَةِ النُّبُوَّةِ وَتَشْرِيفِهِ بِالْبَعْثَةِ وَهِدَايَةِ الْخَلْقِ بَعْدَ الضَّلَالَةِ عَلَى جِهَةِ الْعُمُومِ.
وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي: وَإِنْ كَانَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَشَدَّ عِلْمًا مِنْ غَيْرِهِ بِمَعْرِفَةِ الْقِيَاسِ وَجِهَاتِ الِاسْتِنْبَاطِ، إِلَّا أَنَّ وُجُوبَ الْعَمَلِ بِهِ فِي حَقِّهِ مَشْرُوطٌ بِعَدَمِ مَعْرِفَةِ الْحُكْمِ بِالْوَحْيِ، وَهَذَا الشَّرْطُ مِمَّا لَمْ يَتَبَيَّنْ فِي حَقِّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَلَا مَشْرُوطَ، وَهَذَا بِخِلَافِ عُلَمَاءِ أُمَّتِهِ فَافْتَرَقَا.
وَإِنْ سَلَّمْنَا دَلَالَةَ مَا ذَكَرْتُمُوهُ عَلَى تَعَبُّدِهِ بِالْقِيَاسِ وَالِاجْتِهَادِ، غَيْرَ أَنَّهُ مُعَارَضٌ بِمَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِهِ.
وَبَيَانُهُ مِنْ جِهَةِ الْكِتَابِ وَالْمَعْقُولِ.
أَمَّا الْكِتَابُ: فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى - إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} ، وَذَلِكَ يَنْفِي أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ الصَّادِرُ عَنْهُ بِالِاجْتِهَادِ.
وَأَمَّا الْمَعْقُولُ: فَمِنْ عَشْرَةِ أَوْجُهٍ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ «النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ نَزَلَ مَنْزِلًا فَقِيلَ لَهُ: إِنْ كَانَ ذَلِكَ عَنْ وَحْيٍ فَالسَّمْعُ وَالطَّاعَةُ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ عَنْ رَأْيٍ فَلَيْسَ ذَلِكَ مَنْزِلَ مَكِيدَةٍ. فَقَالَ: بَلْ هُوَ بِالرَّأْيِ» . (١) فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ تَجُوزُ مُرَاجَعَتُهُ فِي الرَّأْيِ، وَقَدْ عُلِمَ أَنَّهُ لَا تَجُوزُ مُرَاجَعَتُهُ
(١) كَانَ ذَلِكَ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ، وَالْقَائِلُ لَهُ هُوَ الْحُبَابُ بْنُ الْمُنْذِرِ الْأَنْصَارِيُّ، انْظُرِ الْقِصَّةَ فِي كُتُبِ السِّيرَةِ وَفِي تَرْجَمَتِهِ فِي كِتَابِ الْإِصَابَةِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute