وَأَمَّا الْمَعْقُولُ: فَهُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى رَءُوفٌ بِعِبَادِهِ رَحِيمٌ لَهُمْ، فَلَا يَلِيقُ بِهِ تَعْذِيبُهُمْ عَلَى مَا لَا قُدْرَةَ لَهُمْ عَلَيْهِ.
وَلِهَذَا كَانَ الْإِثْمُ مُرْتَفِعًا عَنِ الْمُجْتَهِدِينَ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ مَعَ اخْتِلَافِ اعْتِقَادَاتِهِمْ فِيهَا، بِنَاءً عَلَى اجْتِهَادَاتِهِمُ الْمُؤَدِّيَةِ إِلَيْهَا، كَيْفَ وَقَدْ نُقِلَ عَنْ بَعْضِ الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّهُمْ أَوَّلُوا قَوْلَ الْجَاحِظِ وَابْنِ الْعَنْبَرِيِّ بِالْحَمْلِ عَلَى الْمَسَائِلِ الْكَلَامِيَّةِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا تَكْفِيرَ فِيهَا كَمَسْأَلَةِ الرُّؤْيَةِ وَخَلْقِ الْأَعْمَالِ وَخَلْقِ الْقُرْآنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ; لِأَنَّ الْأَدِلَّةَ فِيهَا ظَنِّيَّةٌ مُتَعَارِضَةٌ.
الْجَوَابُ عَمَّا ذَكَرُوهُ عَلَى الْآيَةِ أَنَّهُ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ فِي صِحَّةِ إِطْلَاقِ اسْمِ الْكَافِرِ عَلَى مَنِ اعْتَقَدَ نَقِيضَ الْحَقِّ، وَإِنْ كَانَ عَنِ اجْتِهَادٍ.
وَقَوْلُهُمْ: إِنَّ الْكُفْرَ فِي اللُّغَةِ مَأْخُوذٌ مِنَ التَّغْطِيَةِ مُسَلَّمٌ، وَلَكِنْ لَا نُسَلِّمُ انْتِفَاءَ التَّغْطِيَةِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ بِاعْتِقَادِهِ لِنَقِيضِ الْحَقِّ بِنَاءً عَلَى اجْتِهَادِهِ مُغَطٍّ لِلْحَقِّ مُتَوَقِّفٌ عَلَى عِلْمِهِ بِذَلِكَ.
وَمَا ذَكَرُوهُ مِنَ التَّأْوِيلِ فَفِيهِ تَرْكُ الظَّاهِرِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ، وَمَا يَذْكُرُونَهُ مِنَ الدَّلِيلِ فَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ.
وَمَا ذَكَرُوهُ عَلَى السُّنَّةِ فَبَعِيدٌ أَيْضًا؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إِنْ تَعَذَّرَ قَتْلُهُمْ وَذَمُّهُمْ عَلَى مَا كَانُوا قَدِ اعْتَقَدُوهُ عَنِ اجْتِهَادِهِمْ وَاسْتِفْرَاغِ وُسْعِهِمْ، فَهُوَ لَازِمٌ أَيْضًا عَلَى تَعَذُّرِ قَتْلِهِمْ وَذَمِّهِمْ عَلَى عَدَمِ تَصْدِيقِهِ فِيمَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ ; لِأَنَّ الْكَلَامَ إِنَّمَا هُوَ مَفْرُوضٌ فِيمَنْ أَفْرَغَ وُسْعَهُ وَبَذَلَ جُهْدَهُ فِي التَّوَصُّلِ إِلَى مَعْرِفَةِ مَا دَعَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِ وَتَعَذَّرَ عَلَيْهِ الْوُصُولُ إِلَيْهِ.
وَمَا ذَكَرُوهُ فِي امْتِنَاعِ التَّمَسُّكِ بِالْإِجْمَاعِ فِي مَحَلِّ الْخِلَافِ إِنَّمَا يَصِحُّ فِيمَا كَانَ مِنَ الْإِجْمَاعِ بَعْدَ الْخِلَافِ أَوْ حَالَةِ الْخِلَافِ.
وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ السَّابِقُ عَلَى الْخِلَافِ فَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى الْمُخَالِفِ، وَقَدْ بَيَّنَّا سَبْقَهُ.
وَمَا ذَكَرُوهُ مِنَ التَّأْوِيلِ فَجَوَابُهُ كَمَا تَقَدَّمَ. (١) قَوْلُهُمْ: إِنَّ ذَلِكَ يُفْضِي إِلَى التَّكْلِيفِ بِمَا لَا يُطَاقُ، لَا نُسَلِّمُ ذَلِكَ فَإِنَّ الْوُصُولَ إِلَى
(١) كَمَا تَقَدَّمَ - أَيْ مِنْ أَنَّهُ تَرْكٌ لِلظَّاهِرِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute