للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مَعْرِفَةِ الْحَقِّ مُمْكِنٌ بِالْأَدِلَّةِ الْمَنْصُوبَةِ عَلَيْهِ، وَوُجُودِ الْعَقْلِ الْهَادِي، وَغَايَتُهُ امْتِنَاعُ الْوُقُوعِ بِاعْتِبَارِ أَمْرٍ خَارِجٍ (١) ، وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ مِنَ التَّكْلِيفِ بِهِ وَإِنَّمَا يَمْتَنِعُ مِنَ التَّكْلِيفِ بِمَا لَا يَكُونُ مُمْكِنًا فِي نَفْسِهِ كَمَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ فِي مَوْضِعِهِ.

وَمَا ذَكَرُوهُ فَقَدْ سَبَقَ تَخْرِيجَهُ أَيْضًا فِي مَسْأَلَةِ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ.

وَأَمَّا رَفْعُ الْإِثْمِ فِي الْمُجْتَهَدَاتِ الْفِقْهِيَّةِ فَإِنَّمَا كَانَ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا إِنَّمَا هُوَ الظَّنُّ بِهَا، وَقَدْ حَصَلَ بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ، فَإِنَّ الْمَطْلُوبَ فِيهَا لَيْسَ هُوَ الظَّنُّ بَلِ الْعِلْمُ وَلَمْ يَحْصُلْ. (٢) وَمَا ذَكَرُوهُ مِنَ التَّأْوِيلِ إِنْ صَحَّ أَنَّهُ الْمُرَادُ مِنْ كَلَامِ الْجَاحِظِ وَابْنِ الْعَنْبَرِيِّ فَفِيهِ رَفْعُ الْخِلَافِ وَالْعَوْدُ إِلَى الْحَقِّ وَلَا نِزَاعَ فِيهِ.


(١) أَيْ لَمْ يَكُنْ كُفْرُهُمْ لِشُبْهَةٍ فِي الْأَدِلَّةِ وَلَا لِخُرُوجِهَا عَنْ مُسْتَوَى تَفْكِيرِهِمْ، فَإِنَّهَا أَعْلَامٌ عَلَى الْحَقِّ وَاضِحَةُ الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ لَمْ تَتَجَاوَزْ دَائِرَةَ عُقُولِهِمْ، وَإِنَّمَا كَفَرُوا اسْتِكْبَارًا، وَعُلُوًّا فِي الْأَرْضِ أَوْ حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ، أَوِ اتِّبَاعًا لِلْهَوَى وَانْدِفَاعًا وَرَاءَ الْعَصَبِيَّةِ الْجَاهِلِيَّةِ، أَوْ تَقْلِيدًا لِلْآبَاءِ، وَإِذْعَانًا لِلسَّادَةِ وَالْوُجَهَاءِ، قَالَ تَعَالَى: (وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ) الْآيَاتِ، وَقَالَ: (وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ) ، وَقَالَ: (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ) ، وَقَالَ: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا) ، وَقَالَ: (وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا) ، وَقَالَ: (أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقُرْآنَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرَهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ) إِلَى أَمْثَالِ ذَلِكَ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى وُضُوحِ الدَّعْوَةِ وَحَالِ الدُّعَاةِ إِلَى الْحَقِّ، وَعَلَى مَوْقِفِ خُصُومِهِمُ الْجَائِرِ مِنْهُمْ وَمِنْ دَعْوَتِهِمْ.
(٢) تَقَدَّمَ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ الْفِقْهِيَّةَ شَأْنُهَا شَأْنُ الْمَسَائِلِ الْأُصُولِيَّةِ فِي أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا قَدْ يَكُونُ فِي نَظَرِ الْمُجْتَهِدِ قَطْعِيًّا، وَقَدْ يَكُونُ ظَنِّيًّا، حَسَبَ مَا بَلَغَهُ مِنَ الْأَدِلَّةِ وَمَدَى فَهْمِهِ فِيهَا، فَبِنَاءُ التَّأْثِيمِ وَعَدَمِهِ عَلَى مَا ذُكِرَ مِنَ الْفَرْقِ غَيْرُ مُسَلَّمٍ.

<<  <  ج: ص:  >  >>