الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ قَدِ اجْتَهَدَ وَأَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إِلَى حُكْمٍ مِنَ الْأَحْكَامِ، لَمْ يَجُزْ لَهُ تَقْلِيدُ غَيْرِهِ وَتَرْكُ مَا أَدَّى إِلَيْهِ اجْتِهَادُهُ، فَكَذَا لَا يَجُوزُ لَهُ تَقْلِيدُهُ قَبْلَ الِاجْتِهَادِ ; لِإِمْكَانِ أَنْ يُؤَدِّيَهُ اجْتِهَادُهُ إِلَى خِلَافِ رَأْيِ مَنْ قَلَّدَهُ.
الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ لَوْ جَازَ لِغَيْرِ الصَّحَابَةِ تَقْلِيدُ الصَّحَابَةِ مَعَ تَمَكُّنِهِ مِنَ الِاجْتِهَادِ، لَجَازَ لِبَعْضِ الصَّحَابَةِ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ تَقْلِيدُ الْبَعْضِ، وَلَوْ جَازَ ذَلِكَ لَمَا كَانَ لِمُنَاظَرَاتِهِمْ فِيمَا وَقَعَ بَيْنَهُمْ مِنَ الْمَسَائِلِ الْخِلَافِيَّةِ مَعْنًى.
الرَّابِعَةُ: أَنَّ الصَّحَابَةَ كَانَتْ تَتْرُكُ مَا رَأَتْهُ بِاجْتِهَادِهَا لِمَا تَسْمَعُهُ مِنَ الْخَبَرِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَانَ عَمَلُ غَيْرِهِمْ بِالْخَبَرِ وَتَرْكُ الْعَمَلِ بِرَأْيِهِمْ أَوْلَى.
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ عَلَى الْحُجَّةِ الْأُولَى: إِنَّمَا لَمْ يَجُزِ التَّقْلِيدُ فِي الْعَقْلِيَّاتِ ضَرُورَةَ أَنَّ الْمَطْلُوبَ فِيهَا هُوَ الْعِلْمُ (١) وَهَذَا غَيْرُ حَاصِلٍ بِالتَّقْلِيدِ، بِخِلَافِ مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ، فَإِنَّ الْمَطْلُوبَ فِيهَا هُوَ الظَّنُّ، وَهُوَ حَاصِلٌ بِالتَّقْلِيدِ فَافْتَرَقَا.
وَعَلَى الثَّانِيَةِ: أَنَّهُ إِذَا اجْتَهَدَ إِلَى حُكْمٍ مِنَ الْأَحْكَامِ فَوُثُوقُهُ بِهِ أَتَمُّ مِنْ وُثُوقِهِ بِمَا يُقَلِّدُ فِيهِ الْغَيْرَ ; لِأَنَّهُ مَعَ مُسَاوَاةِ اجْتِهَادِهِ لِاجْتِهَادِ الْغَيْرِ يُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَكُونَ الْغَيْرُ صَادِقًا فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ، وَالْمُجْتَهِدُ لَا يُكَابِرُ نَفْسَهُ فِيمَا أَدَّى إِلَيْهِ اجْتِهَادُهُ، وَقَبْلَ أَنْ يَجْتَهِدَ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ الْوُثُوقُ بِحُكْمٍ مَا، فَلَا يَلْزَمُ مِنِ امْتِنَاعِ التَّقْلِيدِ مَعَ الِاجْتِهَادِ امْتِنَاعُهُ مَعَ عَدَمِهِ.
وَعَلَى الثَّالِثَةِ: أَنَّ مِنَ الْمُخَالِفِينَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَنْ يُجَوِّزُ تَقْلِيدَ الصَّحَابَةِ بَعْضَهُمْ لِبَعْضٍ إِذَا كَانَ الْمُقَلِّدُ أَعْلَمَ كَمَا سَبَقَ فِي تَفْصِيلِ الْمَذَاهِبِ فِي أَوَّلِ الْمَسْأَلَةِ.
وَبِتَقْدِيرِ التَّسْلِيمِ فَلَا يَخْفَى أَنَّ الْوُثُوقَ بِاجْتِهَادِ الصَّحَابِيِّ لِمُشَاهَدَةِ الْوَحْيِ وَالتَّنْزِيلِ، وَمَعْرِفَةِ التَّأْوِيلِ، وَالِاطِّلَاعِ عَلَى أَحْوَالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَزِيَادَةِ اخْتِصَاصِ الصَّحَابَةِ بِالتَّشَدُّدِ فِي الْبَحْثِ عَنْ قَوَاعِدِ الدِّينِ وَتَأْسِيسِ الشَّرِيعَةِ، وَعَدَمِ تَسَامُحِهِمْ فِيهَا أَشُدُّ
(١) الْأَدِلَّةُ الْعَقْلِيَّةُ تَتَفَاوَتُ كَالْأَدِلَّةِ السَّمْعِيَّةِ، فَقَدْ يَكُونُ كُلٌّ مِنْهُمَا قَطْعِيًّا، وَقَدْ يَكُونُ ظَنِّيًّا اجْتِهَادِيًّا، فَلَا فَرْقَ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute