وَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ مُسْتَثْنًى حَقِيقَةً مِمَّا حُرِّمَ بِطَرِيقِ التَّأْسِيسِ، لَكِنْ مِنَ الْمُحْتَمَلِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِوَحْيٍ سَابِقٍ وَهُوَ الْأَوْلَى لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي حَقِّ رَسُولِهِ: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} أَمَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ فَلَا.
وَعَنِ الْخَبَرِ الثَّانِي: أَنَّهُ مِنَ الْجَائِزِ أَنَّ الْوَحْيَ نَزَلَ بِتَخْيِيرِهِ فِي أَمْرِهِمْ بِالسِّوَاكِ الشَّاقِّ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةِ، وَعَدَمِ أَمْرِهِمْ بِذَلِكَ لَا أَنَّ أَمْرَهُ لَهُمْ بِالسِّوَاكِ يَكُونُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ، وَيَجِبُ اعْتِقَادُ ذَلِكَ لِمَا سَبَقَ فِي الْآيَةِ.
وَعَنِ الْخَبَرِ الثَّالِثِ: أَنَّهُ إِنَّمَا أَضَافَ الْعَفْوَ إِلَى نَفْسِهِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ لَمْ يَأْخُذْ صَدَقَةَ الْخَيْلِ وَالرَّقِيقِ مِنْهُمْ، لَا بِمَعْنَى أَنَّهُ الْمُسْقِطُ لَهَا، وَدَلِيلُهُ مَا سَبَقَ فِي الْآيَةِ.
وَعَنِ الْخَبَرِ الرَّابِعِ: أَنَّ قَوْلَهُ: " «وَلَوْ قُلْتُ نَعَمْ لَوَجَبَ» " لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوُجُوبَ مُسْتَنِدٌ إِلَى قَوْلِهِ " نَعَمْ " مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ، بَلْ لِأَنَّهُ لَا يَقُولُ مَا يَقُولُ إِلَّا بِوَحْيٍ لِمَا سَبَقَ فِي الْآيَةِ.
وَعَنِ الْخَامِسِ: أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَدْ أُبِيحَ الْقَتْلُ وَتَرْكُهُ بِالْوَحْيِ بِدَلِيلِ مَا سَبَقَ فِي الْآيَةِ، وَهُوَ الْجَوَابُ عَنْ قِصَّةِ النَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ وَمَاعِزٍ.
وَعَنِ الْخَبَرِ الْأَخِيرِ: أَنَّهُ إِنَّمَا نَهَى وَأَبَاحَ بَعْدَ النَّهْيِ بِطَرِيقِ الْوَحْيِ لَا أَنَّ ذَلِكَ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ.
وَعَنِ الْإِجْمَاعِ: أَمَّا إِضَافَةُ الْخَطَأِ إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَلَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ حَكَمَ مِنْهُمْ أَنَّهُ حَكَمَ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ، بَلْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ حُكْمُهُ بِنَاءً عَلَى مَا ظَنَّهُ دَلِيلًا، وَهُوَ مُخْطِئٌ فِيهِ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ عَنِ اخْتِيَارٍ قَدْ أُبِيحُ لَهُمُ الْعَمَلُ بِهِ لَمَا شَكُّوا فِي كَوْنِهِ صَوَابًا.
وَأَمَّا رُجُوعُ آحَادِ الصَّحَابَةِ عَمَّا حَكَمَ بِهِ إِلَى غَيْرِهِ، فَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ لِظُهُورِ الْخَطَأِ لَهُ فِيمَا ظَنَّهُ دَلِيلًا عَلَى الْحُكْمِ أَوَّلًا، وَقَدْ سَوَّغَ لَهُ الْحُكْمَ بِهِ، أَمَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ فَلَا.
وَعَنِ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ مِنَ الْمَعْقُولِ: أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنَ التَّخْيِيرِ فِي خِصَالِ الْكَفَّارَةِ مِنْ غَيْرِ اجْتِهَادٍ، جَوَازُ ذَلِكَ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ بِدَلِيلِ أَنَّ الْعَامِّيَّ لَهُ أَنْ يَتَخَيَّرَ فِي خِصَالِ الْكَفَّارَةِ، وَمَنْ قَالَ بِجَوَازِ التَّخْيِيرِ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ لَمْ يَقْضِ بِجَوَازِهِ لِغَيْرِ الْمُجْتَهِدِ، وَلَوْ وَقَعَ التَّسَاوِي بَيْنَ الصُّورَتَيْنِ لَجَازَ ذَلِكَ لِلْعَامِّيِّ، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ بِالْإِجْمَاعِ.
وَبِمِثْلِهِ يَخْرُجُ الْجَوَابُ عَنِ الْوَجْهِ الثَّانِي.
وَعَنِ الْوَجْهِ الثَّالِثِ: أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ جَوَازِ (١) الْعَمَلِ بِالْأَمَارَةِ مَعَ كَوْنِهَا مُفِيدَةً
(١) الْمُرَادُ هُنَا بِالْجَوَازِ الْجَوَازُ الشَّرْعِيُّ.