للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لِلظَّنِّ الْعَمَلُ بِالِاخْتِيَارِ مِنْ غَيْرِ ظَنٍّ مُفِيدٍ لِلْحُكْمِ.

وَالْمُعْتَمَدُ فِي الْمَسْأَلَةِ أَنْ يُقَالَ: لَوِ امْتَنَعَ ذَلِكَ إِمَّا أَنْ يَمْتَنِعَ لِذَاتِهِ أَوْ لِمَانِعٍ مِنْ خَارِجٍ، الْأَوَّلُ مُحَالٌ ; فَإِنَّا إِذَا قَدَّرْنَاهُ لَمْ يَلْزَمْ عَنْهُ لِذَاتِهِ مُحَالٌ فِي الْعَقْلِ (١) ، وَإِنْ كَانَ لِمَانِعٍ مِنْ خَارِجٍ فَالْأَصْلُ عَدَمُهُ وَعَلَى مَنْ يَدَّعِيهِ بَيَانُهُ.

فَإِنْ قِيلَ: يَمْتَنِعُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْبَارِي تَعَالَى إِنَّمَا شَرَعَ الشَّرَائِعَ لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ، فَلَوْ فَوَّضَ ذَلِكَ إِلَى اخْتِيَارِ الْعَبْدِ فَاخْتِيَارُ الْعَبْدِ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مَصْلَحَةً وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ مَفْسَدَةً، فَلَا نَأْمَنُ مِنِ اخْتِيَارِهِ لِلْمَفْسَدَةِ، وَذَلِكَ خِلَافُ مَا وُضِعَتْ لَهُ الشَّرِيعَةُ.

وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا الْإِشْكَالِ: أَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى رِعَايَةِ الْمَصْلَحَةِ فِي أَفْعَالِ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَدْ أَبْطَلْنَاهُ فِي مَوْضِعِهِ (٢) ، وَإِنْ سَلَّمْنَا اعْتِبَارَ ذَلِكَ فِي أَفْعَالِهِ تَعَالَى، وَلَكِنْ قَدْ أَمِنَّا فِي ذَلِكَ مِنِ اخْتِيَارِ الْمَفْسَدَةِ لِقَوْلِ اللَّهِ: (اخْتَرْ فَإِنَّكَ لَا تَخْتَارُ إِلَّا الصَّوَابَ) . (٣) فَإِنْ قِيلَ: يَمْتَنِعُ عَلَى الشَّارِعِ قَوْلُ ذَلِكَ لِاسْتِحَالَةِ اسْتِمْرَارِ الْمُكَلَّفِ عَلَى اخْتِيَارِ الصَّلَاحِ دُونَ الْفَسَادِ، كَمَا لَا يَجُوزُ اتِّفَاقُ الْأَفْعَالِ الْكَثِيرَةِ الْمُحْكَمَةِ مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ، ثُمَّ لَوْ جَازَ ذَلِكَ فِي حَقِّ الْمُجْتَهِدِ لَجَازَ مِثْلُهُ فِي حَقِّ الْعَامِّيِّ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ.

قُلْنَا: دَلِيلُ جَوَازِ ذَلِكَ مِنَ الشَّارِعِ أَنَّا لَوْ قَدَّرْنَا وُرُودَهُ مِنْهُ لَمْ يَلْزَمْ عَنْهُ لِذَاتِهِ مُحَالٌ.

قَوْلُهُمْ: إِنَّهُ لَا يَتَّفِقُ اخْتِيَارُ الصَّلَاحِ فِي الْأَفْعَالِ الْكَثِيرَةِ.

قُلْنَا: مَتَى إِذَا أَخْبَرَ الصَّادِقُ بِذَلِكَ أَوْ إِذَا لَمْ يُخْبِرْ؟ (٤) الْأَوَّلُ مَمْنُوعٌ، وَالثَّانِي مُسَلَّمٌ، وَعَلَى هَذَا فَلَوْ قَالَ لِلْعَامِّيِّ مِثْلَ ذَلِكَ كَانَ جَائِزًا عَقْلًا، ثُمَّ وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ لَا يَتَّفِقُ اخْتِيَارُ الْمَصْلَحَةِ فِي الْأَفْعَالِ الْكَثِيرَةِ، لَكِنْ مَتَى إِذَا كَانَتِ الْمَصْلَحَةُ خَارِجَةً عَنِ الْفِعْلِ الْمُخْتَارِ، أَوْ إِذَا كَانَتِ الْمَصْلَحَةُ هِيَ نَفْسَ الْفِعْلِ الْمُخْتَارِ، الْأَوَّلُ مُسَلَّمٌ وَالثَّانِي مَمْنُوعٌ.


(١) انْظُرِ التَّعْلِيقَ ص ١٣٧ ج ٤.
(٢) تَقَدَّمَ مَا فِيهِ تَعْلِيقًا غَيْرَ مَرَّةٍ.
(٣) هَذَا مُجَرَّدُ فَرْضٍ وَتَقْدِيرٍ، وَقَدْ خُتِمَتِ الشَّرَائِعُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِمَّا فُرِضَ.
(٤) تَقَدَّمَ تَعْلِيقًا أَنَّ الشَّرَائِعَ خُتِمَتْ، وَلَمْ يُخْبَرْ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ.

<<  <  ج: ص:  >  >>