فَإِنْ قِيلَ: فَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ الْإِبَاحَةُ وَإِسْقَاطُ التَّكْلِيفِ.
قُلْنَا: لَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ هُوَ إِيجَابُ التَّخْيِيرِ، وَإِيجَابُ التَّخْيِيرِ تَكْلِيفٌ لَا أَنَّهُ إِبَاحَةٌ وَإِسْقَاطٌ لِلتَّكْلِيفِ.
فَإِنْ قِيلَ: إِنَّمَا يَحْسُنُ إِيجَابُ مَا يُمْكِنُ الْخُلُوُّ مِنْهُ، وَيَمْتَنِعُ الْخُلُوُّ مِنَ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ فَلَا يَحْسُنُ إِيجَابُهُ.
قُلْنَا: هَذَا وَإِنِ اسْتَمَرَّ فِي إِيجَابِ الْفِعْلِ وَتَرْكِهِ فَلَا يَسْتَمِرُّ فِي التَّخْيِيرِ بَيْنَ الْأَحْكَامِ الَّتِي يُتَصَوَّرُ الْخُلُوُّ مِنْهَا، كَالتَّخْيِيرِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ مُحَرَّمًا أَوْ وَاجِبًا، وَذَلِكَ بِأَنْ يُقَالَ لَهُ: اخْتَرْ إِمَّا التَّحْرِيمَ وَإِمَّا الْوُجُوبَ، وَأَيَّهُمَا اخْتَرْتَ فَلَا تَخْتَرْ إِلَّا مَا الْمَصْلَحَةُ فِيهِ.
وَلَا يَخْفَى جَوَازُ الْخُلُوِّ مِنْهُمَا بِالْإِبَاحَةِ، وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ الْمَصْلَحَةَ خَارِجَةٌ عَنْ نَفْسِ الْفِعْلِ الْمُخْتَارِ، وَأَنَّهُ يَمْتَنِعُ اخْتِيَارُ الْمَصْلَحَةِ فِي الْأَفْعَالِ الْكَثِيرَةِ، وَلَكِنْ مَا الْمَانِعُ مِنْ ذَلِكَ فِي الْأَفْعَالِ الْقَلِيلَةِ؟
فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ أَوْجَبَ عَلَيْهِ اخْتِيَارَ مَا الْمَصْلَحَةُ فِيهِ أَوْ خَيَّرَهُ بَيْنَ الْمَصْلَحَةِ وَالْمَفْسَدَةِ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَقَدْ كَلَّفَهُ مَا لَا يُطَاقُ ; حَيْثُ أَوْجَبَ عَلَيْهِ اخْتِيَارَ الْمَصْلَحَةِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ فَهُوَ مُحَالٌ عَلَى الشَّارِعِ ; لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِذْنِ مِنْهُ فِي فِعْلِ الْمَفْسَدَةِ، وَهُوَ خَارِجٌ عَنِ الْعَدْلِ.
قُلْنَا: إِنْ أَوْجَبَ عَلَيْهِ اخْتِيَارَ الْمَصْلَحَةِ وَإِنْ كَانَ تَكْلِيفًا بِمَا لَا يُطَاقُ، فَهُوَ جَائِزٌ عَلَى مَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ، وَإِنْ خَيَّرَهُ بَيْنَ أَمْرَيْنِ فَلَا يَمْتَنِعُ ذَلِكَ، كَمَا أَنَّهُ يُوجِبُ عَلَيْهِ الْحُكْمَ بِمَا أَوْجَبَهُ ظَنُّهُ مِنَ الْأَمَارَةِ الظَّنِّيَّةِ، وَإِنْ كَانَ مُخْطِئًا مُرْتَكِبًا لِلْمَفْسَدَةِ كَمَا تَقَرَّرَ قَبْلُ، وَإِذَا جَازَ إِيجَابُ فِعْلِ مَا هُوَ مَفْسَدَةٌ مَعَ عَدَمِ عِلْمِ الْمُكَلَّفِ بِهِ جَازَ التَّخْيِيرُ بَيْنَ الْمَصْلَحَةِ وَالْمَفْسَدَةِ مَعَ عَدَمِ عِلْمِ الْمُكَلَّفِ بِذَلِكَ. (١)
(١) مُقْتَضَى مَا قَبْلَهُ أَنْ يَقُولَ: وَإِذَا جَازَ إِيجَابُ مَا قَدْ يَكُونُ مَفْسَدَةً فِي الْوَاقِعِ لِظَنِّ الْمُكَلَّفِ أَوْ عِلْمِهِ أَنَّهُ مَصْلَحَةٌ جَازَ التَّخْيِيرُ بَيْنَ مَا هُوَ مَصْلَحَةٌ وَمَا هُوَ مَفْسَدَةٌ لِظَنِّ الْمُكَلَّفِ أَوْ عِلْمِهِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يُفْضِي إِلَى الْمَصْلَحَةِ عَلَى السَّوَاءِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute