قُلْنَا: إِنَّمَا لَمْ يُنْكِرُوا ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمَعْرِفَةَ الْوَاجِبَةَ كَانَتْ حَاصِلَةً لَهُمْ، وَهِيَ الْمَعْرِفَةُ بِالدَّلِيلِ مِنْ جِهَةِ الْجُمْلَةِ لَا مِنْ جِهَةِ التَّفْصِيلِ.
قَوْلُهُمْ: (إِنَّ وُجُوبَ النَّظَرِ يَلْزَمُ مِنْهُ وُجُوبُ الْجَهْلِ بِاللَّهِ تَعَالَى) إِنَّمَا يَلْزَمُ ذَلِكَ أَنْ لَوْ كَانَ الْجَهْلُ مَقْدُورًا لِلْعَبْدِ، وَهُوَ غَيْرُ مُسَلَّمٍ.
قَوْلُهُمْ: (يَلْزَمُ مِنْهُ الدَّوْرُ) لَا نُسَلِّمُ ذَلِكَ، فَإِنَّ الْوَاجِبَ الشَّرْعِيَّ عِنْدَنَا غَيْرُ مُتَوَقِّفٍ عَلَى النَّظَرِ، كَمَا سَبَقَ فِي مَسْأَلَةِ شُكْرِ الْمُنْعِمِ.
قَوْلُهُمْ: (إِنَّ النَّظَرَ مَظِنَّةُ الْوُقُوعِ فِي الشُّبُهَاتِ وَالتَّرَدِّي فِي الضَّلَالَاتِ)
قُلْنَا: فَاعْتِقَادُ مَنْ يُقَلِّدُهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَنْ تَقْلِيدٍ أَوْ نَظَرٍ، ضَرُورَةَ امْتِنَاعِ كَوْنِهِ ضَرُورِيًّا، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ: فَالْكَلَامُ فِيمَنْ قَلَّدَهُ كَالْكَلَامِ فِيهِ، وَهُوَ تَسَلْسُلٌ مُمْتَنِعٌ.
وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ: فَالْمَحْذُورُ اللَّازِمُ مِنَ النَّظَرِ لَازِمٌ فِي التَّقْلِيدِ مَعَ زِيَادَةٍ، وَهُوَ احْتِمَالُ كَذِبِ مَنْ قَلَّدَهُ فِيمَا أَخْبَرَهُ بِهِ، بِخِلَافِ النَّاظِرِ مَعَ نَفْسِهِ، فَإِنَّهُ لَا يُكَابِرُ نَفْسَهُ فِيمَا أَدَّى إِلَيْهِ نَظَرُهُ.
قَوْلُهُمْ: إِنَّ التَّقْلِيدَ عَلَيْهِ الْأَكْثَرُ وَالسَّوَادُ الْأَعْظَمُ.
قُلْنَا: ذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى السَّلَامَةِ؛ لِأَنَّ التَّقْلِيدَ فِي الْعَقَائِدِ الْمُضِلَّةِ أَكْثَرُ مِنَ الصَّحِيحَةِ عَلَى مَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} ، وَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: " «تَفْتَرِقُ أُمَّتِي ثَلَاثًا وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَاحِدَةٌ نَاجِيَةٌ وَالْبَاقِي فِي النَّارِ» " وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ أَدِلَّةَ الْحَقِّ دَقِيقَةٌ غَامِضَةٌ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهَا سِوَى أَصْحَابِ الْأَذْهَانِ الصَّافِيَةِ وَالْعُقُولِ الرَّاجِحَةِ، مَعَ الْمُبَالَغَةِ فِي الْجِدِّ وَالِاجْتِهَادِ، وَذَلِكَ مِمَّا يَنْدُرُ وَيَقِلُّ وُقُوعُهُ. (١)
(١) أَدِلَّةُ الشَّرِيعَةِ وَإِنْ كَانَتْ دَقِيقَةً إِلَّا أَنَّهَا وَاضِحَةٌ فِي الْمُرَادِ مِنْهَا، مَيْسُورَةٌ لِمَنْ تَدَبَّرَهَا وَرَدَّ مُتَشَابِهَهَا إِلَى مُحْكَمِهَا، وَمُجْمَلَهَا إِلَى مُفَصَّلِهَا، قَالَ تَعَالَى: (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ) ، وَفِي الْحَدِيثِ: " تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْمَحَجَّةِ الْبَيْضَاءِ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا لَا يَزِيغُ عَنْهَا إِلَّا هَالِكٌ "، وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَعْذِرَ إِلَى عِبَادِهِ بِتَشْرِيعٍ لَا تَبْلُغُهُ عُقُولُهُمْ، وَلَا يُدْرِكُهُ إِلَّا النَّذْرُ الْقَلِيلُ مِنْهُمْ، وَلَا لِيُكَلِّفَهُمْ بِمَا فِي فَهْمِهِ عَنَتٌ وَحَرَجٌ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ الْوَدُودُ الرَّحِيمُ، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا، وَمَا كَانَ رَسُولُهُ لِيَلْغُزَ فِي بَلَاغِهِ وَلَا لِيُعْمِيَ فِي تَعْلِيمِهِ وَإِرْشَادِهِ وَهُوَ أَفْصَحُ الْخَلْقِ وَأَكْمَلُهُمْ بَيَانًا وَأَرْحَمُهُمْ بِأُمَّتِهِ، وَإِنَّمَا أُتِيَ النَّاسُ مِنْ قِبَلِ الشَّرَهِ الْفِكْرِيِّ، وَدُخُولِهِمْ فِيمَا لَا يَعْنِيهِمْ بِقَصْدٍ أَوْ بِغَيْرِ قَصْدٍ وَاتِّبَاعِهِمْ لِمُتَشَابِهِ النُّصُوصِ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَاتِّبَاعًا لِلْهَوَى وَالْوَهْمِ وَالْخَيَالِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute