للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَلَوْ كَانَ الْجِدَالُ بِالْحَقِّ مَنْهِيًّا عَنْهُ لَمَا كَانَ مَأْمُورًا بِهِ، ثُمَّ كَيْفَ يَكُونُ النَّظَرُ مَنْهِيًّا عَنْهُ وَقَدْ أَثْنَى اللَّهُ تَعَالَى عَلَى النَّاظِرِينَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}

أَوْرَدَ ذَلِكَ فِي مَعْرِضِ الثَّنَاءِ وَالْمَدْحِ، وَالْمَنْهِيُّ عَنْهُ لَا يَكُونُ مَمْدُوحًا عَلَيْهِ، وَبِهِ يَخْرُجُ الْجَوَابُ عَنْ نَهْيِهِ عَنِ النَّظَرِ فِي الْقَدَرِ.

وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: " «عَلَيْكُمْ بِدِينِ الْعَجَائِزِ» " لَمْ يَثْبُتْ وَلَمْ يَصِحَّ (١) ، وَإِنْ صَحَّ فَيَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى التَّفْوِيضِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فِيمَا قَضَاهُ وَأَمْضَاهُ، جَمْعًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْأَدِلَّةِ.

قَوْلُهُمْ: (لَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ النَّظَرُ فِي ذَلِكَ) يَلْزَمُ مِنْهُ نِسْبَةُ الصَّحَابَةِ إِلَى الْجَهْلِ بِمَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى مَعَ كَوْنِ الْوَاحِدِ مِنَّا عَالِمًا بِذَلِكَ، وَهُوَ مُحَالٌ، وَإِذَا كَانُوا عَالِمِينَ بِذَلِكَ فَلَيْسَ الْعِلْمُ بِذَلِكَ مِنَ الضَّرُورِيَّاتِ، فَتَعَيَّنَ إِسْنَادُهُ إِلَى النَّظَرِ وَالدَّلِيلِ، وَإِنَّمَا لَمْ تُنْقَلْ عَنْهُمُ الْمُنَاظَرَةُ فِي ذَلِكَ لِصَفَاءِ أَذْهَانِهِمْ وَصِحَّةِ عَقَائِدِهِمْ وَعَدَمِ مَنْ يُحْوِجُهُمْ إِلَى ذَلِكَ، وَحَيْثُ نُقِلَ عَنْهُمْ ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْفُرُوعِ فَلِكَوْنِهَا اجْتِهَادِيَّةً، وَالظُّنُونُ فِيهَا مُتَفَاوِتَةٌ بِخِلَافِ الْمَسَائِلِ الْقَطْعِيَّةِ. (٢) قَوْلُهُمْ: إِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالصَّحَابَةَ لَمْ يُنْكِرُوا عَلَى الْعَامَّةِ تَرْكَ النَّظَرِ.


(١) انْظُرِ التَّعْلِيقَ ص ٢٢٤ - ج٤.
(٢) كَانَ الصَّحَابَةُ أَعْرَفَ بِاللَّهِ تَعَالَى وَأَبْعَدَ نَظَرًا وَأَدَقَّ فَهْمًا فِي نُصُوصِ الشَّرِيعَةِ مِمَّنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ لِصَفَاءِ أَذْهَانِهِمْ وَمَكَانِهِمْ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَنُزُولِ الْوَحْيِ عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمُ اخْتِلَافٌ فِي التَّوْحِيدِ وَلَا فِي مَسَائِلِهِ لِرُجُوعِهِمْ إِلَى الْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ وَالْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ الصَّرِيحَةِ وَنُصُوصِ الشَّرِيعَةِ الصَّحِيحَةِ، وَبُعْدِهِمْ عَنْ مَوَارِدِ الشُّبَهِ وَمَنَازِعِ الْأَهْوَاءِ، وَلِأَنَّهُمْ لَمْ يَتَكَلَّفُوا الْكَلَامَ فِي تَفَاصِيلَ لَمْ تَدْعُ الضَّرُورَةُ إِلَى الْبَحْثِ فِيهَا، وَلَا خَاضُوا فِيمَا لَا يَعْنِيهِمْ مِنَ الْمَسَائِلِ مِثْلِ: الْوُجُودُ عَيْنُ الْمَوْجُودِ أَوْ غَيْرُهُ، وَالصِّفَةُ عَيْنُ الْمَوْصُوفِ أَوْ غَيْرُهُ، وَرُؤْيَةُ الْخَلْقِ لِرَبِّهِمْ بِكَيْفٍ أَوْ لَا، وَفِي جِهَةٍ أَوْ لَا، وَتَعْرِيفِ الزَّمَانِ وَالْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ، وَبَقَاءِ الْعَرَضِ زَمَانَيْنِ، إِلَى أَمْثَالِ ذَلِكَ مِمَّا تَكَلَّفَ الْقَوْلَ فِيهِ كَثِيرٌ مِنَ الْبَاحِثِينَ بَعْدَهُمْ، فَأَوْرَثَهُمْ حَيْرَةً وَحَادَ بِهِمْ عَنِ الْجَادَّةِ، وَإِنَّمَا تَكَلَّمُوا فِي تَفَاصِيلِ الْفُرُوعِ لِوُقُوعِهَا وَضَرُورَةِ النَّاسِ إِلَى مَعْرِفَةِ أَحْكَامِهَا، وَاخْتَلَفُوا فِي مَسَائِلَ مِنْهَا لِلْإِجْمَالِ فِي الْأَدِلَّةِ، وَلِلتَّفَاوُتِ فِي الْبَلَاغِ وَالْفَهْمِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْأَسْبَابِ، وَاتَّفَقُوا فِي مَسَائِلَ لَمْ يُوجَدْ فِيهَا الْمُقْتَضِي لِلْخِلَافِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>