الْإِبَاحَةُ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، وَهِيَ أَنَّا لَوْ عَمِلْنَا بِمَا مُقْتَضَاهُ التَّحْرِيمُ لَزِمَ مِنْهُ فَوَاتُ مَقْصُودِ الْإِبَاحَةِ مِنَ التَّرْكِ مُطْلَقًا، وَلَوْ عَمِلْنَا بِمَا مُقْتَضَاهُ الْإِبَاحَةُ فَقَدْ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ فَوَاتُ مَقْصُودِ الْحَظْرِ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ أَنَّهُ إِذَا كَانَ حَرَامًا فَلَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ الْمَفْسَدَةُ ظَاهِرَةً، وَعِنْدَ ذَلِكَ فَالْغَالِبُ أَنَّ الْمُكَلَّفَ يَكُونُ عَالِمًا بِهَا وَقَادِرًا عَلَى دَفْعِهَا؛ لِعِلْمِهِ بِعَدَمِ لُزُومِ الْمَحْذُورِ مِنْ تَرِكِ الْمُبَاحِ، وَلِأَنَّ الْمُبَاحَ مُسْتَفَادٌ مِنَ التَّخْيِيرِ قَطْعًا بِخِلَافِ اسْتِفَادَةِ الْحُرْمَةِ مِنَ النَّهْيِ لِتَرَدُّدِهِ بَيْنَ الْحُرْمَةِ وَالْكَرَاهَةِ، فَكَانَ أَوْلَى.
وَعَلَى هَذَا فَلَا يَخْفَى وَجْهُ التَّرْجِيحِ بَيْنَ مَا مُقْتَضَاهُ الْحُرْمَةُ وَمَا مُقْتَضَاهُ النَّدْبُ.
الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَدْلُولُ أَحَدِهِمَا الْحَظْرَ وَالْآخَرِ الْوُجُوبَ، فَمَا مُقْتَضَاهُ التَّحْرِيمُ أَوْلَى لِوَجْهَيْنِ:
الْأَوَّلُ: هُوَ أَنَّ الْغَالِبَ مِنَ الْحُرْمَةِ إِنَّمَا هُوَ دَفْعُ مَفْسَدَةٍ مُلَازِمَةٍ لِلْفِعْلِ أَوْ تَقْلِيلُهَا، وَفِي الْوُجُوبِ تَحْصِيلُ مَصْلَحَةٍ مُلَازِمَةٍ لِلْفِعْلِ، أَوْ تَكْمِيلُهَا، وَاهْتِمَامُ الشَّارِعِ وَالْعُقَلَاءِ بِدَفْعِ الْمَفَاسِدِ أَتَمُّ مِنِ اهْتِمَامِهِمْ بِتَحْصِيلِ الْمَصَالِحِ، وَلِهَذَا فَإِنَّ مَنْ أَرَادَ فِعْلًا لِتَحْصِيلِ مَصْلَحَةٍ، يَنْفُرُ عَنْهُ إِذَا عَارَضَهُ فِي نَظْرَةِ لُزُومِ مَفْسَدَةٍ مُسَاوِيَةٍ لِلْمَصْلَحَةِ، كَمَنْ رَامَ تَحْصِيلَ دِرْهَمٍ عَلَى وَجْهٍ يَلْزَمُ مِنْهُ فَوَاتُ مِثْلِهِ، وَإِذَا كَانَ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنَ التَّحْرِيمِ أَشَدَّ وَآكَدَ مِنْهُ فِي الْوَاجِبِ كَانَتِ الْمُحَافَظَةُ عَلَيْهِ أَوْلَى.
وَلِهَذَا كَانَ مَا شُرِعَتِ الْعُقُوبَاتُ فِيهِ مِنْ فِعْلِ الْمُحَرَّمَاتِ أَكْثَرَ مِنْ تَرْكِ الْوَاجِبَاتِ وَأَشَدَّ كَالرَّجْمِ الْمَشْرُوعِ فِي زِنَا الْمُحْصَنِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ إِفْضَاءَ الْحُرْمَةِ إِلَى مَقْصُودِهَا أَتَمُّ مِنْ إِفْضَاءِ الْوُجُوبِ إِلَى مَقْصُودِهِ، فَكَانَتِ الْمُحَافَظَةُ عَلَيْهِ أَوْلَى، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَقْصُودَ الْحُرْمَةِ يَتَأَتَّى بِالتَّرْكِ وَذَلِكَ كَافٍ مَعَ الْقَصْدِ لَهُ، أَوْ مَعَ الْغَفْلَةِ عَنْهُ، وَلَا كَذَلِكَ فِعْلُ الْوَاجِبِ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ تَرْكَ الْوَاجِبِ وَفِعْلَ الْمُحَرَّمِ إِذَا تَسَاوَيَا فِي دَاعِيَةِ الطَّبْعِ إِلَيْهِمَا فَالتَّرْكُ يَكُونُ أَيْسَرَ وَأَسْهَلَ مِنَ الْفِعْلِ لِتُضَمُّنِ الْفِعْلِ مَشَقَّةَ الْحَرَكَةِ وَعَدَمَ الْمَشَقَّةِ فِي التَّرْكِ، وَمَا يَكُونُ حُصُولُ مَقْصُودِهِ أَوْقَعَ يَكُونُ أَوْلَى بِالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهِ. (١) الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ حُكْمُ أَحَدِهِمَا الْحُرْمَةَ وَالْآخَرِ الْكَرَاهَةَ، فَالْحَظْرُ أَوْلَى لِمُسَاوَاتِهِ الْكَرَاهَةَ فِي طَلَبِ التَّرْكِ وَزِيَادَتِهِ عَلَيْهِ بِمَا يَدُلُّ عَلَى اللَّوْمِ عِنْدَ الْفِعْلِ، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ
(١) انْظُرْ ص ٢٩٠ - ٣٠٦ وَص ٨٥ - ١٥٩ ج ٢٠ مِنْ مَجْمُوعِ الْفَتَاوَى لِابْنِ تَيْمِيَةَ، وَالْجُزْءَ الثَّانِي مِنَ الْمُوَافَقَاتِ، وَمَبْحَثَ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي فِي الْجُزْءِ الثَّالِثِ مِنْهَا.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute