للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مِنْهُمَا إِنَّمَا هُوَ التَّرْكُ لِمَا يَلْزَمُهُ مِنْ دَفْعِ الْمَفْسَدَةِ الْمُلَازِمَةِ لِلْفِعْلِ، وَالْحُرْمَةُ أَوْفَى لِتَحْصِيلِ ذَلِكَ الْمَقْصُودِ فَكَانَتْ أَوْلَى بِالْمُحَافَظَةِ.

وَأَيْضًا فَإِنَّ الْعَمَلَ بِالْمُحَرَّمِ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ إِبْطَالُ دَلَالَةِ الْمُقْتَضِي لِلْكَرَاهَةِ، وَهُوَ طَلَبُ التَّرْكِ وَالْعَمَلُ بِالْمُقْتَضِي لِلْكَرَاهَةِ مِمَّا يَجُوزُ مَعَهُ الْفِعْلُ، وَفِيهِ إِبْطَالُ دَلَالَةِ الْمُحَرَّمِ.

وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْعَمَلَ بِمَا لَا يُفْضِي إِلَى الْإِبْطَالِ يَكُونُ أَوْلَى، وَبِمَا حَقَّقْنَاهُ فِي تَرْجِيحِ الْمُحَرَّمِ عَلَى الْمُقْتَضِي لِلْكَرَاهَةِ يَكُونُ تَرْجِيحُ الْمُوجِبِ عَلَى الْمُقْتَضِي لِلنَّدْبِ.

الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ حُكْمُ أَحَدِهِمَا إِثْبَاتًا وَالْآخَرِ نَفْيًا، وَذَلِكَ كَخَبَرِ بِلَالٍ بِأَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «دَخَلَ الْبَيْتَ وَصَلَّى» (١) وَخَبَرُ أُسَامَةَ «أَنَّهُ دَخَلَ وَلَمْ يُصَلِّ» (٢) فَالنَّافِي مُرَجَّحٌ عَلَى الْمُثْبِتِ خِلَافًا لِلْقَاضِي عَبْدِ الْجَبَّارِ فِي قَوْلِهِ: " إِنَّهُمَا سَوَاءٌ "، وَالْمُثْبِتُ وَإِنْ كَانَ مُتَرَجِّحًا عَلَى النَّافِي لِاشْتِمَالِهِ عَلَى زِيَادَةِ عِلْمٍ غَيْرَ أَنَّ النَّافِيَ لَوْ قَدَّرْنَا تَقَدُّمَهُ عَلَى الْمُثْبِتِ كَانَتْ فَائِدَتُهُ التَّأْكِيدَ، وَلَوْ قَدَّرْنَا تَأَخُّرَهُ كَانَتْ فَائِدَتُهُ التَّأْسِيسَ، وَفَائِدَةُ التَّأْسِيسِ أَوْلَى لِمَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ فَكَانَ الْقَضَاءُ بِتَأْخِيرِهِ أَوْلَى.

فَإِنْ قِيلَ: إِلَّا أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ تَأَخُّرِهِ مُخَالَفَةُ الدَّلِيلِ الْمُثْبِتِ، وَرَفْعُ حُكْمِهِ دُونَ تَقَدُّمِهِ.

قُلْنَا: هُوَ مُعَارَضٌ بِمِثْلِهِ، فَإِنَّا لَوْ قَدَّرَنَا تَقَدُّمَ النَّافِي فَالْمُثْبَتُ بَعْدَهُ يَكُونُ نَافِيًا لِحُكْمِهِ وَرَافِعًا لَهُ.

فَإِنْ قِيلَ: الْمُثْبِتُ وَإِنْ كَانَ رَافِعًا لِحُكْمِ النَّافِي عَلَى تَقْدِيرِ تَأَخُّرِهِ عَنْهُ، فَرَافِعٌ لِمَا فَائِدَتُهُ التَّأْكِيدُ، وَلَوْ قَدَّرْنَا تَأَخُّرَ النَّافِي كَانَ مُبْطِلًا لِمَا فَائِدَتُهُ التَّأْسِيسُ، فَكَانَ فَرْضُ تَأَخُّرِ الْمُثْبِتِ أَوْلَى.


(١) يُشِيرُ إِلَى مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: دَخَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْبَيْتَ هُوَ وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ وَبِلَالٌ وَعُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ فَأَغْلَقُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ، فَلَمَّا فَتَحُوا كُنْتُ أَوَّلَ مَنْ وَلَجَ فَلَقِيتُ بِلَالًا فَسَأَلْتُهُ: هَلْ صَلَّى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قَالَ: نَعَمْ، بَيْنَ الْعَمُودَيْنِ الْيَمَانِيَيْنِ.
(٢) يُشِيرُ إِلَى مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَبَّرَ فِي الْبَيْتِ وَلَمْ يُصَلِّ فِيهِ، وَلَمْ يَكُنِ ابْنُ عَبَّاسٍ دَخَلَ مَعَهُمُ الْبَيْتَ، فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَخَذَهُ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ.

<<  <  ج: ص:  >  >>