وَأَمَّا مَا اخْتَصَّ بِهِ الْوَاجِبُ مِنَ الذَّمِّ عَلَى التَّرْكِ، وَمَا اخْتَصَّ بِهِ الْمَنْدُوبُ مِنْ عَدَمِ اللَّوْمِ عَلَى التَّرْكِ فَمَشْكُوكٌ فِيهِ، وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا أَوْلَى مِنَ الْآخَرِ.
وَأَمَّا إِذَا لَمْ يَظْهَرْ مِنْ فِعْلِهِ قَصْدُ الْقُرْبَةِ فَهُوَ، وَإِنْ جَوَّزْنَا عَلَيْهِ فِعْلَ الصَّغِيرَةِ غَيْرَ أَنَّ احْتِمَالَ وُقُوعِهَا مِنْ آحَادِ عُدُولِ الْمُسْلِمِينَ نَادِرٌ، فَكَيْفَ مِنَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
بَلِ الْغَالِبُ مِنْ فِعْلِهِ أَنَّهُ لَا يَكُونُ مَعْصِيَةً، وَلَا مَنْهِيًّا عَنْهُ وَعِنْدَ ذَلِكَ، فَمَا مِنْ فِعْلٍ مِنْ آحَادِ أَفْعَالِهِ، إِلَّا وَاحْتِمَالُ دُخُولِهِ تَحْتَ الْغَالِبِ أَغْلَبُ.
وَإِذَا كَانَ الْغَالِبُ مِنْ فِعْلِهِ أَنَّهُ لَا يَكُونُ مَعْصِيَةً وَلَا مَنْهِيًّا عَنْهُ، فَكُلُّ فِعْلٍ لَا يَكُونُ مَنْهِيًّا عَنْهُ لَا يَخْرُجُ عَنِ الْوَاجِبِ وَالْمَنْدُوبِ وَالْمُبَاحِ، وَالْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَ الْكُلِّ إِنَّمَا هُوَ رَفْعُ الْحَرَجِ عَنِ الْفِعْلِ دُونَ التَّرْكِ، وَالْفِعْلُ دَلِيلٌ قَاطِعٌ عَلَيْهِ.
وَأَمَّا مَا اخْتَصَّ بِهِ الْوُجُوبُ وَالنَّدْبُ عَنِ الْمُبَاحِ مِنْ تَرَجُّحِ الْفِعْلِ عَلَى التَّرْكِ، وَمَا اخْتَصَّ بِهِ الْمُبَاحُ عَنْهُمَا مِنَ اسْتِوَاءِ الطَّرَفَيْنِ فَمَشْكُوكٌ فِيهِ.
هَذَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى أُمَّتِهِ؛ فَلِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَدِ اخْتُصَّ عَنْهُمْ بِخَصَائِصَ لَا يُشَارِكُونَهُ غَيْرَ أَنَّهَا نَادِرَةٌ، بَلْ أَنْدَرُ مِنَ النَّادِرِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَحْكَامِ الْمُشْتَرَكِ فِيهَا.
وَعِنْدَ ذَلِكَ، فَمَا مِنْ وَاحِدٍ مِنْ آحَادِ الْأَفْعَالِ إِلَّا وَاحْتِمَالُ مُشَارَكَةِ الْأُمَّةِ لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِيهِ أَغْلَبُ مِنَ احْتِمَالِ عَدَمِ الْمُشَارَكَةِ إِدْرَاجًا لِلنَّادِرِ تَحْتَ الْأَعَمِّ الْأَغْلَبِ فَكَانَتِ الْمُشَارَكَةُ أَظْهَرُ.
وَإِذْ أَتَيْنَا عَلَى تَفْصِيلِ الْمَذَاهِبِ وَتَقْرِيرِ مَا هُوَ الْمُخْتَارُ، فَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ شُبَهِ الْمُخَالِفِينَ، وَوَجْهِ الِانْفِصَالِ عَنْهَا.
وَأَمَّا شُبَهُ الْقَائِلِينَ بِالْوُجُوبِ، فَمِنْ جِهَةِ النَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ وَالْمَعْقُولِ.
أَمَّا مِنْ جِهَةِ النَّصِّ، فَمِنْ جِهَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.
أَمَّا مِنْ جِهَةِ الْكِتَابِ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا} أَمْرٌ بِمُتَابَعَتِهِ، وَمُتَابَعَتُهُ امْتِثَالُ الْقَوْلِ وَالْإِتْيَانُ بِمِثْلِ فِعْلِهِ.
وَالْأَمْرُ ظَاهِرٌ فِي الْوُجُوبِ.
وَأَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} حَذَّرَ مِنْ مُخَالَفَةِ أَمْرِهِ وَالتَّحْذِيرُ دَلِيلُ الْوُجُوبِ، وَاسْمُ الْأَمْرِ يُطْلَقُ عَلَى الْفِعْلِ، كَمَا سَيَأْتِي تَقْرِيرُهُ