الثَّانِي أَنَّ النُّبُوَّةَ مِنَ الرُّتَبِ الْعَلِيَّةِ وَالْأَوْصَافِ السَّنِيَّةِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ مُتَابَعَةَ الْعَظِيمِ فِي أَفْعَالِهِ مِنْ أَتَمِّ الْأُمُورِ فِي تَعْظِيمِهِ، وَإِجْلَالِهِ وَأَنَّ عَدَمَ مُتَابَعَتِهِ فِي أَفْعَالِهِ بِأَنْ صَلَّى وَهُمْ جُلُوسٌ أَوْ قَامَ يَطُوفُ وَهُمْ يَتَسَامَرُونَ مِنْ أَعْظَمِ الْأُمُورِ فِي إِسْقَاطِ حُرْمَتِهِ وَالْإِخْلَالِ بِعَظَمَتِهِ، وَهُوَ حَرَامٌ مُمْتَنِعٌ.
الثَّالِثُ: أَنَّ أَفْعَالَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَائِمَةٌ مَقَامَ أَقْوَالِهِ فِي بَيَانِ الْمُجْمَلِ وَتَخْصِيصِ الْعُمُومِ وَتَقْيِيدِ الْمُطْلَقِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَكَانَ فِعْلُهُ مَحْمُولًا عَلَى الْوُجُوبِ كَالْقَوْلِ.
الرَّابِعُ: أَنَّ مَا فَعَلَهُ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ حَقًّا وَصَوَابًا، وَتَرْكُ الْحَقِّ وَالصَّوَابِ يَكُونُ خَطَأً وَبَاطِلًا، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ.
الْخَامِسُ: أَنَّ فِعْلَهُ احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا وَاحْتَمَلَ أَنْ لَا يَكُونَ وَاجِبًا، وَاحْتِمَالُ كَوْنِهِ وَاجِبًا أَظْهَرُ مِنَ احْتِمَالِ كَوْنِهِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ ; لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ لَا يَخْتَارُ لِنَفْسِهِ سِوَى الْأَكْمَلِ وَالْأَفْضَلِ، وَالْوَاجِبُ أَكْمَلُ مِمَّا لَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَإِذَا كَانَ وَاجِبًا فَيَجِبُ اعْتِقَادُ مُشَارَكَةِ الْأُمَّةِ لَهُ فِيهِ لِمَا قَرَّرْتُمُوهُ فِي طَرِيقَتِكُمْ.
وَأَمَّا شُبَهُ الْقَائِلِينَ بِالنَّدْبِ فَنَقْلِيَّةٌ وَعَقْلِيَّةٌ أَيْضًا.
أَمَّا النَّقْلِيَّةُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} جُعِلَ التَّأَسِّي بِهِ حَسَنَةً، وَأَدْنَى دَرَجَاتِ الْحَسَنَةِ الْمَنْدُوبُ فَكَانَ مَحْمُولًا عَلَيْهِ، وَمَا زَادَ فَهُوَ مَشْكُوكٌ فِيهِ.
وَأَمَّا الْعَقْلِيَّةُ: فَهُوَ أَنَّ فِعْلَهُ وَإِنِ احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ مَعْصِيَةً إِلَّا أَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ، وَالظَّاهِرُ مِنْ فِعْلِهِ أَنَّهُ لَا يَكُونُ إِلَّا حَسَنَةً وَالْحَسَنَةُ لَا تَخْرُجُ عَنِ الْوَاجِبِ وَالْمَنْدُوبِ، وَحَمْلُهُ عَلَى فِعْلِ الْمَنْدُوبِ أَوْلَى لِوَجْهَيْنِ.
الْأَوَّلُ: أَنَّ غَالِبَ أَفْعَالِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَتْ هِيَ الْمَنْدُوبَاتِ.
الثَّانِي: أَنَّ كُلَّ وَاجِبٍ مَنْدُوبٌ وَزِيَادَةٌ، وَلَيْسَ كُلُّ مَنْدُوبٍ وَاجِبًا.
فَكَانَ فِعْلُ الْمَنْدُوبِ لِعُمُومِهِ أَغْلَبَ، وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ مُشَارَكَةُ أُمَّتِهِ لَهُ فِيهِ لِمَا ذَكَرْتُمُوهُ فِي طَرِيقَتِكُمْ.
وَأَمَّا شُبَهُ الْقَائِلِينَ بِالْإِبَاحَةِ فَهِيَ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَفْعَالِ كُلِّهَا إِنَّمَا هُوَ الْإِبَاحَةُ وَرَفْعُ الْحَرَجِ عَنِ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ إِلَّا مَا دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى تَغْيِيرِهِ، وَالْأَصْلُ عَدَمُ الْمُغَيَّرِ.
وَأَمَّا شُبَهُ الْقَائِلِينَ بِالْوَقْفِ، فَإِنَّهُمْ قَالُوا: فِعْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ أَنْ