بَلِ الَّذِي يُجْزَمُ بِهِ إِنَّمَا هُوَ كَذِبُهُ، وَنَحْنُ وَإِنْ قُلْنَا بِجَوَازِ وُرُودِ التَّعَبُّدِ بِخَبَرِ مَنْ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ صِدْقُهُ، فَقَدْ لَا نُسَلِّمُ جَوَازَ وُرُودِ التَّعَبُّدِ بِقَوْلِ مَنْ غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ كَذِبُهُ.
الثَّانِي: هُوَ أَنَّا إِذَا جَوَّزْنَا وُرُودَ التَّعَبُّدِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ فَوُجُوبُ الْعَمَلِ بِهِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَسْتَنِدَ إِلَى دَلِيلٍ قَاطِعٍ مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ أَوْ إِجْمَاعٍ، وَلَا كَذَلِكَ الْمُدَّعِي لِلرِّسَالَةِ؛ إِذَا لَمْ تَقْتَرِنْ بِقَوْلِهِ مُعْجِزَةٌ تَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْعَمَلِ بِقَوْلِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَلَوْ بُعِثَ رَسُولٌ، وَظَهَرَتِ الْمُعْجِزَةُ الْقَاطِعَةُ الدَّالَّةُ عَلَى صِدْقِهِ، ثُمَّ قَالَ: مَهْمَا أَخْبَرَكُمْ إِنْسَانٌ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرْسَلَهُ بِشَرِيعَةٍ، وَظَنَنْتُمْ صِدْقَهُ، فَاعْمَلُوا بِقَوْلِهِ، فَقَدِ اسْتَنَدَ وُجُوبُ الْعَمَلِ بِقَوْلِهِ إِلَى دَلِيلٍ قَاطِعٍ، وَهُوَ قَوْلُ النَّبِيِّ الصَّادِقِ، وَمَعَ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ (١) .
قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ، مَعَ فَرْضِ هَذَا التَّقْدِيرِ، أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْأَخْذُ بِقَوْلِهِ، ثُمَّ الْفَرْقُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ هُوَ أَنَّ الْمَفْسَدَةَ اللَّازِمَةَ مِنْ قَبُولِ قَوْلِ الْمُدَّعِي لِلرِّسَالَةِ مِنْ غَيْرِ مُعْجِزَةٍ أَعْظَمُ مِنْ مَفْسَدَةِ قَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ.
وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ رِئَاسَةَ النُّبُوَّةِ أَعْظَمُ مِنْ كُلِّ رِئَاسَةٍ، وَرُتْبَتَهَا أَعْلَى مِنْ كُلِّ رُتْبَةٍ، فَلَوْ وَرَدَ التَّعَبُّدُ بِاتِّبَاعِ كُلِّ مُدَّعٍ لِلرِّسَالَةِ إِذَا غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ صِدْقُهُ مِنْ غَيْرِ مُعْجِزَةٍ دَالَّةٍ عَلَى صِدْقِهِ، فَمَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ إِلَّا وَقَدْ يَسَلُكُ الْمَسَالِكَ الْمُغَلِّبَةَ عَلَى الظَّنِّ صِدْقَهُ، وَيَتَوَخَّى مِنَ الْأَفْعَالِ وَالْأَقْوَالِ مَا تَظْهَرُ بِهِ عَدَالَتُهُ، طَمَعًا فِي نَيْلِ مِثْلِ هَذِهِ الرِّئَاسَةِ الْعُظْمَى بِمُجَرَّدِ دَعْوَاهُ.
وَذَلِكَ يُفْضِي إِلَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يَدَّعِي نَسْخَ شَرِيعَةِ الْآخَرِ وَرَفْعَهَا عَلَى قُرْبٍ مِنَ الزَّمَانِ، وَلَا يَخْفَى مَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْمَفْسَدَةِ الَّتِي لَا تَحَقُّقَ لِمِثْلِهَا فِي خَبَرِ الْوَاحِدِ.
(١) هَذَا مِنَ الْفُرُوضِ الْمَمْقُوتَةِ الَّتِي لَا يَنْبَغِي الِاسْتِرْسَالُ فِيهَا، وَلَا تَرْتِيبُ حُكْمٍ عَلَيْهَا، وَلَا الْإِجَابَةُ عَنْهَا، فَإِنَّ الْبَحْثَ فِيهَا بَحْثٌ فِي غَيْرِ وَاقِعٍ، وَدُخُولٌ فِيمَا لَا يَعْنِي.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute