للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فَإِنْ قِيلَ: نَحْنُ لَا نُنْكِرُ أَنَّ الْخِطَابَ الْخَاصَّ بِالْوَاحِدِ لَا يَكُونُ خِطَابًا لِغَيْرِهِ مُطْلَقًا، بَلِ الْمُدَّعَى أَنَّ مَنْ كَانَ مُقَدَّمًا عَلَى قَوْمٍ، وَقَدْ عُقِدَتْ لَهُ الْوِلَايَةُ وَالْإِمَارَةُ عَلَيْهِمْ وَجُعِلَ لَهُ مَنْصِبُ الِاقْتِدَاءِ بِهِ، فَإِنَّهُ إِذَا قِيلَ لَهُ: ارْكَبْ لِمُنَاجَزَةِ الْعَدُوِّ وَشَنِّ الْغَارَةِ عَلَيْهِ وَعَلَى بِلَادِهِ، فَإِنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ يُعِدُّونَ ذَلِكَ أَمْرًا لِأَتْبَاعِهِ وَأَصْحَابِهِ.

وَكَذَلِكَ إِذَا أُخْبِرَ عَنْهُ بِأَنَّهُ قَدْ فَتَحَ الْبَلَدَ الْفُلَانِيَّ وَكَسَرَ الْعَدُوَّ، فَإِنَّهُ يَكُونُ إِخْبَارًا عَنْ أَتْبَاعِهِ أَيْضًا، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِمَّنْ قَدْ ثَبَتَ كَوْنُهُ قُدْوَةً لِلْأُمَّةِ وَمُتَّبَعًا لَهُمْ، فَأَمْرُهُ وَنَهْيُهُ يَكُونُ أَمْرًا وَنَهْيًا لِأُمَّتِهِ إِلَّا مَا دَلَّ الدَّلِيلُ فِيهِ عَلَى الْفَرْقِ (١) .

وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَكَرْنَاهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} ، وَلَمْ يَقُلْ إِذَا طَلَّقْتَ النِّسَاءَ فَطَلِّقْهُنَّ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ خِطَابَهُ لِأُمَّتِهِ، وَأَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا} أَخْبَرَهُ أَنَّهُ إِنَّمَا أَبَاحَهُ ذَلِكَ لِيَكُونَ ذَلِكَ مُبَاحًا لِلْأُمَّةِ، وَلَوْ كَانَتِ الْإِبَاحَةُ خَاصَّةً بِهِ لَمَا انْتَفَى الْحَرَجُ عَنِ الْأُمَّةِ.

وَأَيْضًا فَإِنَّهُ قَدْ وَرَدَ الْخِطَابُ بِتَخْصِيصِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِأَحْكَامٍ دُونَ أُمَّتِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} إِلَى قَوْلِهِ: {خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ} ، وَلَوْ لَمْ يَكُنِ الْخِطَابُ الْمُطْلَقُ لَهُ خِطَابًا لِأُمَّتِهِ، بَلْ خَاصًّا بِهِ لَمَا احْتِيجَ إِلَى بَيَانِ التَّخْصِيصِ بِهِ هَاهُنَا.

وَمَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنِ احْتِمَالِ التَّفَاوُتِ فِي الْمَصْلَحَةِ وَالْمَفْسَدَةِ فَغَيْرُ قَادِحٍ مَعَ ظُهُورِ الْمُشَارَكَةِ فِي الْخِطَابِ كَمَا تَقَرَّرَ.

وَلِهَذَا جَازَ تَكْلِيفُ الْكُلِّ مَعَ هَذَا لِظُهُورِ الْخِطَابِ، وَجَازَ تَعْدِيَةُ الْحُكْمِ مِنَ الْأَصْلِ إِلَى الْفَرْعِ عِنْدَ ظَنِّ الِاشْتِرَاكِ فِي الدَّاعِي مَعَ احْتِمَالِ التَّفَاوُتِ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ فِي الْمَصْلَحَةِ وَالْمَفْسَدَةِ.


(١) حَالُ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ أُمَّتِهِ أَمْكَنَ فِي إِرَادَةِ أُمَّتِهِ مَعَهُ بِخِطَابِهِ تَعَالَى إِيَّاهُ مِنْ حَالِ الْمُقَدَّمِ فِي قَوْمِهِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنِ اقْتِضَاءِ صِفَةِ الرِّسَالَةِ ذَلِكَ، وَلِأَمْرِهِ تَعَالَى الْأُمَّةَ بِالِاتِّسَاءِ بِهِ وَاتِّبَاعِهِ فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ كَمَا فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَفِي قَوْلِهِ: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ) الْآيَةَ، وَقَوْلِهِ: (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا) الْآيَتَيْنِ، فَالرَّسُولُ أَوْلَى بِتَبَعِيَّةِ أُمَّتِهِ لَهُ وَقَصْدِهِمْ بِخِطَابِهِ تَعَالَى لَهُ مِنْ تَبَعِيَّةِ الْقَوْمِ لِمُقَدَّمِهِمْ

<<  <  ج: ص:  >  >>