للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ الْإِجْمَاعَ مُنْعَقِدٌ عَلَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ: وَاللَّهِ لَا أَكَلْتُ الطَّعَامَ، وَلَا دَخَلْتُ الدَّارَ، وَلَا كَلَّمْتُ زَيْدًا وَاسْتَثْنَى بِقَوْلِهِ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ أَنَّهُ يَعُودُ إِلَى الْجَمِيعِ.

وَهَذِهِ الْحُجَّةُ أَيْضًا بَاطِلَةٌ، فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ وَإِنْ أَطْلَقُوا لَفْظَ الِاسْتِثْنَاءِ عَلَى التَّعْلِيقِ عَلَى الْمَشِيئَةِ فَمَجَازٌ، وَلَيْسَ بِاسْتِثْنَاءٍ حَقِيقَةً، بَلْ ذَلِكَ شَرْطٌ كَمَا فِي قَوْلِهِ: إِنْ دَخَلْتُ الدَّارَ، وَيَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ شَرْطًا لَا اسْتِثْنَاءً أَنَّهُ يَجُوزُ دُخُولُهُ عَلَى الْوَاحِدِ مَعَ أَنَّ الْوَاحِدَ لَا يَدْخُلُهُ الِاسْتِثْنَاءُ، وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَةً إِلَّا طَلْقَةً لَمْ يَصِحَّ وَوَقَعَ بِهِ طَلْقَةٌ.

وَكَذَلِكَ إِذَا قَالَ: لَهُ عَلَيَّ دِرْهَمٌ إِلَّا دِرْهَمًا، وَإِذَا كَانَ شَرْطًا فَلَا يَلْزَمُ مِنْ عَوْدِهِ إِلَى الْجَمِيعِ عَوْدُ الِاسْتِثْنَاءِ إِلَّا بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ، وَلَا بُدَّ مِنْ جَامِعٍ مُؤَثِّرٍ.

وَمَعَ ذَلِكَ يَكُونُ قِيَاسًا فِي اللُّغَةِ، وَهُوَ بَاطِلٌ بِمَا سَبَقَ.

وَبِهَذَا يَبْطُلُ إِلْحَاقُهُمُ الِاسْتِثْنَاءَ بِالشَّرْطِ، وَهُوَ قَوْلُهُمْ: الِاسْتِثْنَاءُ غَيْرُ مُسْتَقِلٍّ بِنَفْسِهِ فَكَانَ عَائِدًا إِلَى الْكُلِّ كَالشَّرْطِ، وَهُوَ مَا إِذَا قَالَ: أَكْرِمْ بَنِي تَمِيمٍ وَبَنِي رَبِيعَةَ إِنْ دَخَلُوا الدَّارَ، كَيْفَ وَالْفَرْقُ ظَاهِرٌ؟ فَإِنَّ الشَّرْطَ وَإِنْ كَانَ مُتَأَخِّرًا فِي اللَّفْظِ فَهُوَ مُتَقَدِّمٌ فِي الْمَعْنَى لِوُجُوبِ تَقَدُّمِ الشَّرْطِ عَلَى الْجَزَاءِ، فَقَوْلُهُ: أَكْرِمْ بَنِي تَمِيمٍ وَبَنِي رَبِيعَةَ إِنْ دَخَلُوا الدَّارَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: إِنْ دَخَلَ بَنُو تَمِيمٍ وَبَنُو رَبِيعَةَ الدَّارَ فَأَكْرِمْهُمْ، وَلَوْ صَرَّحَ بِذَلِكَ كَانَ صَحِيحًا وَلَا كَذَلِكَ فِي الِاسْتِثْنَاءِ.

وَلِهَذَا، فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ: إِلَّا أَنْ يَتُوبُوا اضْرِبْ بَنِي تَمِيمٍ وَبَنِي رَبِيعَةَ لَا يَكُونُ صَحِيحًا.

الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ الْحَاجَةَ قَدْ تَدْعُو إِلَى الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ جَمِيعِ الْجُمَلِ، وَأَهْلُ اللُّغَةِ مُطْبِقُونَ عَلَى أَنَّ تَكْرَارَ الِاسْتِثْنَاءِ فِي كُلِّ جُمْلَةِ مُسْتَقْبَحٌ رَكِيكٌ مُسْتَثْقَلٌ، وَذَلِكَ كَمَا لَوْ قَالَ: إِنْ دَخَلَ زَيْدٌ الدَّارَ فَاضْرِبْهُ إِلَّا أَنْ يَتُوبَ، وَإِنْ زَنَى فَاضْرِبْهُ إِلَّا أَنْ يَتُوبَ فَلَمْ يَبْقَ سِوَى تَعَقُّبِ الِاسْتِثْنَاءِ لِلْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ.

وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مُطَوَّلًا غَيْرَ أَنَّهُ يُعْرَفُ شُمُولُ الِاسْتِثْنَاءِ لِلْكُلِّ بِيَقِينٍ فَلَا يَكُونُ مُسْتَقْبَحًا، وَإِنْ كَانَ مُسْتَقْبَحًا، فَإِنَّمَا يَمْتَنِعُ أَنْ لَوْ كَانَ وَضْعُ اللُّغَةِ مَشْرُوطًا بِالْمُسْتَحْسَنِ وَهُوَ غَيْرُ مُسَلَّمٌ.

وَدَلِيلُهُ أَنَّهُ لَوْ وَقَعَ الِاسْتِثْنَاءُ كَذَلِكَ، فَإِنَّهُ يَصِحُّ لُغَةً وَيَثْبُتُ حُكْمُهُ، وَلَوْلَا أَنَّهُ مِنْ وَضْعِ اللُّغَةِ لَمَا كَانَ كَذَلِكَ.

<<  <  ج: ص:  >  >>