وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ ذَلِكَ لَا يُعْرَفُ إِلَّا بِالنَّقْلِ، وَلَكِنْ لَا نُسَلِّمُ امْتِنَاعَ إِثْبَاتِ ذَلِكَ بِالْآحَادِ، إِذِ الْمَسْأَلَةُ عِنْدَنَا غَيْرُ قَطْعِيَّةٍ، بَلْ ظَنِّيَّةٌ مُجْتَهَدٌ فِيهَا بِنَفْيٍ أَوْ إِثْبَاتٍ، بَلْ غَلَبَةُ ظَنٍّ تَجْرِي فِيهَا التَّخْطِئَةُ الظَّنِّيَّةُ، دُونَ الْقَطْعِيَّةِ كَمَا فِي سَائِرِ مَسَائِلِ الْفُرُوعِ الِاجْتِهَادِيَّةِ كَيْفَ وَإِنَّ اشْتِرَاطَ التَّوَاتُرِ فِي إِثْبَاتِ اللُّغَاتِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي كُلِّ كَلِمَةٍ تَرِدُ عَنْ أَهْلِ اللُّغَةِ، أَوْ فِي الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ، الْقَوْلُ بِالتَّفْصِيلِ تَحَكُّمٌ غَيْرُ مَعْقُولٍ، كَيْفَ وَإِنَّهُ لَا قَائِلَ بِهِ؟
وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ شَرْطًا فِي الْكُلِّ فَذَلِكَ مِمَّا يُفْضِي إِلَى تَعْطِيلِ التَّمَسُّكِ بِأَكْثَرِ اللُّغَةِ لِتَعَذُّرِ التَّوَاتُرِ فِيهَا، وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ تَعْطِيلُ الْعَمَلِ بِأَكْثَرِ أَلْفَاظِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، وَالْمَحْذُورُ فِي ذَلِكَ فَوْقَ الْمَحْذُورِ فِي قَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ الْمَعْرُوفِ بِالْعَدَالَةِ وَالضَّبْطِ وَالْمَعْرِفَةِ، وَهُوَ تَطَرُّقُ الْكَذِبِ أَوِ الْخَطَأِ عَلَيْهِ، مَعَ أَنَّ الْغَالِبَ صِدْقُهُ وَصِحَّةُ نَقْلِهِ.
وَلِهَذَا كَانَ الْعُلَمَاءُ فِي كُلِّ عَصْرٍ وَإِلَى زَمَنِنَا هَذَا يَكْتَفُونَ فِي إِثْبَاتِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْمُسْتَنِدَةِ إِلَى الْأَلْفَاظِ اللُّغَوِيَّةِ بِنَقْلِ الْآحَادِ الْمَعْرُوفِينَ بِالثِّقَةِ وَالْمَعْرِفَةِ كَالْأَصْمَعِيِّ وَالْخَلِيلِ وَأَبِي عُبَيْدَةَ وَأَمْثَالِهِمْ. (١) الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ تَقْيِيدُ الْحُكْمِ بِالصِّفَةِ يَدُلُّ عَلَى نَفْيِهِ عِنْدَ عَدَمِهَا لَمَا حَسُنَ الِاسْتِفْهَامُ عَنِ الْحُكْمِ فِي حَالِ نَفْيِهَا لَا عَنْ نَفْيِهِ وَلَا عَنْ إِثْبَاتِهِ، لِكَوْنِهِ اسْتِفْهَامًا عَمَّا دَلَّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ، كَمَا لَوْ قَالَ لَهُ: " لَا تَقُلْ لِزَيْدٍ أُفٍّ " فَإِنَّهُ دَلَّ عَلَى امْتِنَاعِ ضَرْبِهِ فَإِنَّهُ لَا يَحْسُنُ أَنْ يُقَالَ: " فَهَلْ أَضْرِبُهُ " وَلَا شَكَّ فِي حُسْنِهِ، لَوْ قَالَ: " أَدِّ الزَّكَاةَ عَنْ غَنَمِكَ السَّائِمَةِ " فَإِنَّهُ يَحْسُنُ أَنْ يُقَالَ وَهَلْ أُؤَدِّيهَا عَنِ الْمَعْلُوفَةِ؟
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: حُسْنُ الِاسْتِفْهَامِ إِنَّمَا كَانَ لِطَلَبِ الْأَجْلَى وَالْأَوْضَحِ لِكَوْنِ دَلَالَةِ الْخِطَابِ ظَاهِرَةً ظَنِّيَّةً غَيْرَ قَطْعِيَّةٍ، وَلِهَذَا فَإِنَّهُمْ لَمْ يَسْتَقْبِحُوا الِاسْتِفْهَامَ مِمَّنْ
(١) هُوَ أَبُو سَعِيدٍ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ قَرِيبِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَصْمَعَ الْبَاهِلِيُّ الْأَصْمَعِيُّ الْبَصْرِيُّ مَاتَ بِالْبَصْرَةِ عَامَ ٢١٣ - ٢١٧ عَنْ ٨٨ سَنَةً. وَالْخَلِيلُ هُوَ ابْنُ أَحْمَدَ الْأَزْدِيُّ الْفَرَاهِيدِيُّ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْبَصْرِيُّ صَاحِبُ الْعَرُوضِ وَكِتَابِ الْعَيْنِ فِي اللُّغَةِ، مَاتَ عَامَ ١٧٠ - ١٧٥ هـ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ النَّحْوِيُّ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ بِالْوَلَاءِ الْبَصْرِيُّ، مِنْ أَئِمَّةِ الْعِلْمِ بِالْأَدَبِ وَاللُّغَةِ، وُلِدَ عَامَ ١١٠ هـ، وَتُوُفِّيَ عَامَ ٢٠٩ هـ، فَإِنْ كَانَ الْمَذْكُورُ أَبَا عُبَيْدٍ بِلَا تَاءٍ فَقَدْ سَبَقَتْ تَرْجَمَتُهُ فِي ص ٧٢.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute