وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ: إِنَّهُ الْخِطَابُ الدَّالُّ عَلَى ارْتِفَاعِ الْحُكْمِ الثَّابِتِ بِالْخِطَابِ الْمُتَقَدِّمِ عَلَى وَجْهٍ لَوْلَاهُ لَكَانَ ثَابِتًا مَعَ تَرَاخِيهِ عَنْهُ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْغَزَالِيِّ أَيْضًا.
وَقَصَدَ بِالْقَيْدِ الْأَوَّلِ تَعْمِيمَ كُلِّ خِطَابٍ كَانَ مِنْ بَابِ الْمَنْظُومِ أَوْ غَيْرِهِ، وَالِاحْتِرَازَ عَنِ الْمَوْتِ وَالْمَرَضِ وَالْجُنُونِ وَجَمِيعِ الْأَعْذَارِ الدَّالَّةِ عَلَى ارْتِفَاعِ الْأَحْكَامِ الزَّائِلَةِ بِهَا مَعَ تَرَاخِيهَا، وَلَوْلَاهَا لَكَانَتِ الْأَحْكَامُ الزَّائِلَةُ بِهَا مُسْتَمِرَّةً.
وَبِالْقَيْدِ الثَّانِي: وَهُوَ الْخِطَابُ الْمُتَقَدِّمُ الِاحْتِرَازَ عَنِ الْخِطَابِ الدَّالِّ عَلَى ارْتِفَاعِ الْأَحْكَامِ الْعَقْلِيَّةِ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ.
وَبِالْقَيْدِ الثَّالِثِ: وَهُوَ عَلَى وَجْهٍ لَوْلَاهُ لَكَانَ مُسْتَمِرًّا الِاحْتِرَازُ عَمَّا إِذَا وَرَدَ الْخِطَابُ بِحُكْمٍ مُؤَقَّتٍ، ثُمَّ وَرَدَ الْخِطَابُ عِنْدَ تَصَرُّمِ ذَلِكَ الْوَقْتِ بِحُكْمٍ مُنَاقِضٍ لِلْأَوَّلِ، كَمَا لَوْ وَرَدَ قَوْلُهُ عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ (كُلُوا) بَعْدَ قَوْلِهِ: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ نَسْخًا لِحُكْمِ الْخِطَابِ الْأَوَّلِ حَيْثُ إِنَّهُ لَوْ قَدَّرْنَا عَدَمَ الْخِطَابِ الثَّانِي لَمْ يَكُنْ حُكْمُ الْخِطَابِ الْأَوَّلِ مُسْتَمِرًّا بَلْ مُنْتَهِيًا بِالْغُرُوبِ.
وَبِالْقَيْدِ الرَّابِعِ الِاحْتِرَازُ عَنِ الْخِطَابِ الْمُتَّصِلِ، كَالِاسْتِثْنَاءِ وَالتَّقْيِيدِ بِالشَّرْطِ وَالْغَايَةِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ بَيَانًا لَا نَسْخًا.
وَيَرِدُ عَلَيْهِ إِشْكَالَاتٌ:
الْإِشْكَالُ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْخِطَابَ الدَّالَّ عَلَى ارْتِفَاعِ الْحُكْمِ الثَّابِتِ هُوَ النَّاسِخُ، وَالنَّسْخُ هُوَ نَفْسُ الِارْتِفَاعِ فَلَا يَكُونُ النَّاسِخُ هُوَ النَّسْخُ.
الثَّانِي: وَهُوَ مَا أَوْرَدَهُ أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّهُ لَيْسَ بِجَامِعٍ وَلَا مَانِعٍ.
أَمَّا إِنَّهُ لَيْسَ بِجَامِعٍ فِلِأَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْهُ النَّسْخُ بِفِعْلِ الرَّسُولِ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ بِخِطَابٍ، وَيَخْرُجُ مِنْهُ نَسْخُ مَا ثَبَتَ بِفِعْلِ الرَّسُولِ، وَلَيْسَ فِيهِ ارْتِفَاعُ حُكْمٍ ثَبَتَ بِالْخِطَابِ.
وَأَمَّا أَنَّهُ لَيْسَ بِمَانِعٍ فَلِأَنَّهُ لَوِ اخْتَلَفَتِ الْأُمَّةُ فِي الْوَاقِعَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَأَجْمَعُوا بِخِطَابِهِمْ عَلَى تَسْوِيغِ الْأَخْذِ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْقَوْلَيْنِ لِلْمُقَلِّدِ، ثُمَّ أَجْمَعُوا بِأَقْوَالِهِمْ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فَإِنَّ حُكْمَ خِطَابِ الْإِجْمَاعِ الثَّانِيَ دَلَّ عَلَى ارْتِفَاعِ حُكْمِ خِطَابِ الْإِجْمَاعِ الْأَوَّلِ وَلَيْسَ بِنَسْخٍ إِذِ الْإِجْمَاعُ لَا يُنْسَخُ بِهِ.