للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قَوْلُهُمْ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ: إِنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ جَهْلُ الْمُكَلَّفِ بِاعْتِقَادِ التَّأْبِيدِ فَقَدْ أَجَابَ عَنْهُ أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ بِأَنَّهُ إِلَى ذَلِكَ أَنْ لَوْ لَمْ يَكُنْ قَدِ اقْتَرَنَ بِالْخِطَابِ الْمَنْسُوخِ مَا يُشْعِرُ بِنَسْخِهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَقَدْ بَيَّنَّا إِبْطَالَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ فِي تَأْخِيرِ الْبَيَانِ إِلَى وَقْتِ الْحَاجَةِ. (١) وَالْوَجْهُ فِي الْجَوَابِ أَنْ نَقُولَ: دَلَالَةُ الْخِطَابِ عَلَى التَّأْبِيدِ لَا يَلْزَمُهَا التَّأْبِيدُ مَعَ الْقَوْلِ بِجَوَازِ النَّسْخِ، فَإِذَا اعْتَقَدَ الْمُكَلَّفُ التَّأْبِيدَ فَالْجَهْلُ إِنَّمَا جَاءَهُ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ لَا مِنْ قِبَلِ مَا اقْتَضَاهُ الْخِطَابُ، بَلِ الْوَاجِبُ أَنْ يَعْتَقِدَ التَّأْبِيدَ بِشَرْطِ عَدَمِ النَّاسِخِ ثُمَّ وَإِنْ أَفْضَى ذَلِكَ إِلَى الْجَهْلِ فِي حَقِّ الْعَبْدِ، فَالْقَوْلُ بِقُبْحِ ذَلِكَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى مَبْنِيٌّ عَلَى التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ الْعَقْلِيِّ، وَقَدْ أَبْطَلْنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ. (٢) ثُمَّ مَتَى يَكُونُ ذَلِكَ قَبِيحًا إِذَا اسْتَلْزَمَ مَصْلَحَةً تَرْبُو عَلَى مَفْسَدَةِ جَهْلِهِ، أَوْ إِذَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، الْأَوَّلُ مَمْنُوعٌ، وَالثَّانِي مُسَلَّمٌ.

وَبَيَانُ لُزُومِ الْمَصْلَحَةِ الزَّائِدَةِ هُنَا مَا فِيهِ مِنْ زِيَادَةِ الثَّوَابِ بِاعْتِقَادِهِ دَوَامَ مَا أُمِرَ بِهِ، وَالْعَزْمِ عَلَى فِعْلِهِ، وَالِانْقِيَادِ لِقَضَاءِ اللَّهِ وَحُكْمِهِ فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ:

كَيْفَ وَإِنَّ مَا ذَكَرُوهُ مُنْتَقِضٌ بِمَا يُحْدِثُهُ اللَّهُ تَعَالَى لِلْعَبْدِ مِنَ الْغِنَى وَالصِّحَّةِ، فَإِنَّ ذَلِكَ مِمَّا يُوجِبُ اعْتِقَادَ دَوَامِهِ لَهُ مَعَ جَوَازِ إِزَالَتِهِ بِالْفَقْرِ وَالْمَرَضِ.

قَوْلُهُمْ فِي الْوَجْهِ الثَّانِي: إِلَى تَعْجِيزِ الرَّبِّ تَعَالَى عَنْ إِعْلَامِنَا بِالتَّأْبِيدِ، لَيْسَ كَذَلِكَ، لِجَوَازِ أَنْ يَخْلُقَ لَنَا الْعِلْمَ الضَّرُورِيَّ بِذَلِكَ.

وَمَا ذَكَرُوهُ فِي الْوَجْهِ الثَّالِثِ فَمُنْدَفِعٌ، فَإِنَّهُ إِنْ كَانَ اللَّفْظُ الْوَارِدُ فِي الْخِطَابِ مِمَّا لَا يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ، فَالْوُثُوقُ بِهِ حَاصِلٌ لَا مَحَالَةَ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْوُثُوقُ بِهِ عَلَى حَسَبِ مَا اقْتَضَاهُ الظَّاهِرُ لَا قَطْعًا، وَذَلِكَ غَيْرُ مُسْتَحِيلٍ.

وَمَا ذَكَرُوهُ فِي الْوَجْهِ الرَّابِعِ فَغَيْرُ صَحِيحٍ، فَإِنَّا لَا نَمْنَعُ مِنْ جَوَازِ نَسْخِ شَرْعِنَا


(١) انْظُرْ رَأْيَ أَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ، وَالرَّدَّ عَلَيْهِ فِي الْمَسْأَلَةِ الرَّابِعَةِ مِنْ مَسَائِلِ الْبَيَانِ وَالْمُبَيَّنِ.
(٢) تَقَدَّمَ أَيْضًا مَا فِيهِ تَعْلِيقًا عَلَى الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى مِنَ الْأَصْلِ الْأَوَّلِ فِي الْحَاكِمِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>