وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ مَظْنُونًا فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ ; لِأَنَّ الظَّنَّ وَاجِبُ الِاتِّبَاعِ فِي الشَّرْعِ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ عَلَى الْعَمَلِ بِالظَّنِّ وَوُجُوبِ اتِّبَاعِهِ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ.
فَمِنْ ذَلِكَ مَا اشْتُهِرَ عَنْهُمْ فِي زَمَنِ عُمَرَ مِنْ تَقْدِيرِ حَدِّ شَارِبِ الْخَمْرِ بِثَمَانِينَ جَلْدَةً ; بِسَبَبِ ظَنٍّ وَقَعَ لَهُمْ مِنْ قَوْلِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " أَرَى أَنَّهُ إِذَا شَرِبَ سَكِرَ وَإِذَا سَكِرَ هَذِيَ وَإِذَا هَذِيَ افْتَرَى، فَأَرَى أَنْ يُقَامَ عَلَيْهِ حَدُّ الْمُفْتَرِينَ " (١) ; إِقَامَةٌ لِلشُّرْبِ الَّذِي هُوَ مَظَنَّةُ الِافْتِرَاءِ مَقَامَ الِافْتِرَاءِ فِي حُكْمِهِ.
وَمِنْ ذَلِكَ حُكْمُهُمْ فِي إِمَامَةِ أَبِي بَكْرٍ بِالرَّأْيِ وَالظَّنِّ، وَقِيَاسُهُمُ الْعَهْدَ عَلَى الْعَقْدِ فِي الْإِمَامَةِ، وَرُجُوعُهُمْ إِلَى اجْتِهَادِ أَبِي بَكْرٍ فِي قِتَالِ بَنِي حَنِيفَةَ حَيْثُ امْتَنَعُوا مِنْ أَدَاءِ الزَّكَاةِ، وَاتِّفَاقُهُمْ عَلَى كَتَبَةِ الصُّحُفِ وَجَمْعِ الْقُرْآنِ بَيْنَ الدَّفَّتَيْنِ بِالرَّأْيِ وَالظَّنِّ، وَاتِّفَاقُهُمْ عَلَى الِاجْتِهَادِ فِي مَسْأَلَةِ الْجَدِّ وَالْإِخْوَةِ عَلَى وُجُوهٍ مُخْتَلِفَةٍ.
وَمِنْ ذَلِكَ مَا اشْتَهَرَ عَنْ آحَادِ الصَّحَابَةِ مِنَ الْعَمَلِ بِالظَّنِّ وَالرَّأْيِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ عَلَيْهِ.
فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ: " أَقُولُ فِي الْكَلَالَةِ بِرَأْيِي " وَحُكْمُهُ بِالرَّأْيِ فِي التَّسْوِيَةِ فِي الْعَطَاءِ.
وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ عُمَرَ: " أَقُولُ فِي الْجَدِّ بِرَأْيِي وَأَقْضِي فِيهِ بِرَأْيِي " وَقَضَى فِيهِ بِآرَاءٍ مُخْتَلِفَةٍ.
وَقَوْلُهُ فِي حَدِيثِ الْجَنِينِ: " لَوْلَا هَذَا لَقَضَيْنَا فِيهِ بِرَأْيِنَا ".
وَتَشْرِيكُهُ فِي الْمَسْأَلَةِ الْحِمَارِيَّةِ لِمَا قِيلَ لَهُ: هَبْ أَنَّ أَبَانَا كَانَ حِمَارًا أَلَسْنَا مِنْ أُمٍّ وَاحِدَةٍ؟ ".
وَمِنْ ذَلِكَ مَا نُقِلَ عَنْ عُثْمَانَ إِنَّهُ قَالَ لِعُمَرَ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ: " إِنِ اتَّبَعْتُ رَأْيَكَ فَرَأْيُكَ أَشَدُّ، وَإِنْ تَتَّبِعْ مَنْ قَبْلَكَ فَنِعْمَ ذَلِكَ الرَّأْيُ "، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْوَقَائِعِ الَّتِي لَا تُحْصَى، وَلِأَنَّ عَمَلَهُمْ بِالرَّأْيِ مَعَ الِاخْتِلَافِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَعَ وُجُودِ دَلِيلٍ قَاطِعٍ
(١) رَوَى الْقِصَّةَ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ مِنْ طَرِيقِ ثَوْرِ بْنِ يَزِيدَ الدِّيلِيِّ عَنْ عُمَرَ، وَأَخْرَجَهَا الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ مِنْ طَرِيقِ ثَوْرٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَرَوَاهَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنَّفِهِ مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ الْقِصَّةَ فِي صَحِيحِهِ مِنْ طَرِيقِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَفِيهَا: أَنَّ الَّذِي أَشَارَ عَلَى عُمَرَ هُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنْ عَلِيٍّ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ أَشَارَ عَلَى عُمَرَ أَنْ يَجْلِدَ الشَّارِبَ ثَمَانِينَ جَلْدَةً.