الْخَامِسُ: أَنَّ الْحُكْمَ فِي أَصْلِ الْقِيَاسِ إِنْ كَانَ ثَابِتًا بِالنَّصِّ امْتَنَعَ إِثْبَاتُهُ فِي الْفَرْعِ ; لِعَدَمِ وُجُودِ النَّصِّ فِي الْفَرْعِ وَامْتِنَاعِ ثُبُوتِهِ فِيهِ بِغَيْرِ طَرِيقِ حُكْمِ الْأَصْلِ، وَإِلَّا لَمَا كَانَ تَابِعًا لِلْأَصْلِ وَلَا فَرْعًا لَهُ، وَإِنْ كَانَ ثَابِتًا بِالْعِلَّةِ فَهُوَ مُمْتَنِعٌ لِوَجْهَيْنِ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ الْحُكْمَ فِي الْأَصْلِ مَقْطُوعٌ وَالْعِلَّةَ مَظْنُونَةٌ، وَالْمَقْطُوعُ بِهِ لَا يَثْبُتُ بِالْمَظْنُونِ.
الثَّانِي: أَنَّ الْعِلَّةَ فِي الْأَصْلِ مُسْتَنْبَطَةٌ مِنْ حُكْمِ الْأَصْلِ وَمُتَفَرِّعَةٌ عَلَيْهِ وَالْمُتَفَرِّعُ عَلَى الشَّيْءِ لَا يَكُونُ مُثْبِتًا لِذَلِكَ الشَّيْءِ وَإِلَّا كَانَ دَوْرًا مُمْتَنِعًا (١) .
السَّادِسُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَتِ الْعِلَّةُ مَنْصُوصَةً كَمَا لَوْ قَالَ: " حَرَّمْتُ الرِّبَا فِي الْبُرِّ لِكَوْنِهِ مَطْعُومًا " فَإِنَّهُ لَا يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ فِي غَيْرِ الْبُرِّ فَالْمُسْتَنْبَطَةُ أَوْلَى بِعَدَمِ التَّعْدِيَةِ، وَبَيَانُ أَنَّ الْمَنْصُوصَةَ لَا تَقْتَضِي التَّحْرِيمَ فِي غَيْرِ مَحَلِّ النَّصِّ قُصُورُ دَلَالَةِ اللَّفْظِ عَنْ ذَلِكَ.
وَلِهَذَا فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ: " أَعْتَقْتُ كُلَّ عَبْدٍ لِي أَسْوَدَ " عُتِقَ كُلُّ السُّودَانِ مِنْ عَبِيدِهِ، وَلَوْ قَالَ: " أَعْتَقْتُ عَبْدِي سَالِمًا لِسَوَادِهِ أَوْ لِسُوءِ خُلُقِهِ " فَإِنَّهُ لَا يُعْتَقُ غَانِمٌ، وَإِنْ كَانَ أَشَدَّ سَوَادًا مِنْ سَالِمٍ وَأَسْوَأَ خُلُقًا.
السَّابِعُ: أَنَّ حُكْمَ الْقِيَاسِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُوَافِقًا لِلْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ، أَوْ مُخَالِفًا لَهَا.
(١) يُجَابُ عَنْ ذَلِكَ عَلَى التَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ بِأَنَّ النَّصَّ أَوِ الْإِجْمَاعَ كَمَا ثَبَتَ بِهِ حُكْمُ الْأَصْلِ ثَبَتَ بِهِ اعْتِبَارُ الْوَصْفِ الْمُنَاسِبِ فِي الْأَصْلِ عِلَّةً لِحُكْمِهِ، وَتِلْكَ الْعِلَّةُ هِيَ الَّتِي ثَبَتَ بِهَا حُكْمُ الْفَرْعِ، وَإِذْ ذَاكَ يَكُونُ الدَّلِيلُ الَّذِي ثَبَتَ بِهِ حُكْمُ الْأَصْلِ مُبَاشَرَةً هُوَ الَّذِي ثَبَتَ بِهِ حُكْمُ الْفَرْعِ لَكِنْ بِوَسَاطَةِ الْعِلَّةِ، وَيُجَابُ عَنْهُ عَلَى التَّقْدِيرِ الثَّانِي أَوَّلًا بِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ قَطْعِيَّةً حُكْمَ الْأَصْلِ بِإِطْلَاقٍ، وَلَا ظَنِّيَّةً حُكْمَ الْفَرْعِ بِإِطْلَاقٍ، فَقَدْ يَكُونُ كُلٌّ مِنْهُمَا قَطْعِيًّا وَقَدْ يَكُونُ ظَنِّيًّا وَقَدْ يَخْتَلِفَانِ، وَثَانِيًا بِأَنَّ عِلَّةَ حُكْمِ الْأَصْلِ مَقْصُودٌ إِلَيْهَا فِي شَرْعِ حُكْمِهِ، وَعَلَيْهَا بُنِيَ فَكَانَتْ مُثْبِتَةً لَهُ تَشْرِيعًا، وَهِيَ مُسْتَنْبَطَةٌ مِنْهُ بِبَحْثِ الْمُجْتَهِدِ فَكَانَتْ فَرْعًا لَهُ بِالنِّسْبَةِ لِعَمَلِ الْمُجْتَهِدِ وَمَعْرِفَتِهِ، وَعَلَى ذَلِكَ لَا دَوْرَ لِاخْتِلَافِ جِهَةِ التَّوَقُّفِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute