الْأَوَّلُ: لَا نُسَلِّمُ عَدَمَ النَّكِيرِ عَلَيْهِمْ، فَإِنَّ الْآيَةَ إِنَّمَا خَرَجَتْ مُخْرَجَ الْإِنْكَارِ لِقَوْلِهِمْ ذَلِكَ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: {إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} .
الثَّانِي: أَنَّهُ وَإِنْ كَانَ قِيَاسًا وَتَشْبِيهًا فِي الْأُمُورِ الْحَقِيقِيَّةِ، فَلَا يَلْزَمُ مِثْلُهُ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ إِلَّا بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ أَيْضًا، وَهُوَ مَحَلُّ النِّزَاعِ.
وَأَمَّا الْإِجْمَاعِيَّةُ: فَمِنْهَا أَنَّهُمْ قَالُوا: الْأُمَّةُ قَدْ عَقِلَتْ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} تَحْرِيمَ الشَّتْمِ وَالضَّرْبِ بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ، وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ لِإِمْكَانِ قَوْلِ الْخَصْمِ إِنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا عَقْلٌ مِنْ دَلَالَةِ اللَّفْظِ وَفَحْوَى الْخِطَابِ عَلَى مَا سَبَقَ.
وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ، غَيْرَ أَنَّ الْعِلَّةَ فِيهِ مَعْلُومَةٌ بِدَلَالَةِ النَّصِّ، وَهِيَ كَفُّ الْأَذَى عَنِ الْوَالِدَيْنِ، وَلَا يَلْزَمُ مِثْلُهُ فِيمَا كَانَتِ الْعِلَّةُ فِيهِ مُسْتَنْبَطَةً مَظْنُونَةً كَمَا قَالَهُ النَّظَّامُ.
وَمِنْهَا: أَنَّ الْأُمَّةَ مُجْمِعَةٌ عَلَى رَجْمِ الزَّانِي الْمُحْصَنِ قِيَاسًا عَلَى رَجْمِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لِمَاعِزٍ) ، وَهُوَ ضَعِيفٌ وَأَيْضًا لِإِمْكَانِ أَنْ يُقَالَ: بَلْ إِنَّمَا حَكَمُوا بِذَلِكَ بِنَاءً عَلَى قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «حُكْمِي عَلَى الْوَاحِدِ حُكْمِي عَلَى الْجَمَاعَةِ» " (١) .
وَمِنْهَا أَنَّ الْأُمَّةَ مُجْمِعَةٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَعَبَّدَنَا بِالِاسْتِدْلَالِ بِالْأَمَارَاتِ عَلَى جِهَةِ الْقِبْلَةِ عِنْدَ اشْتِبَاهِهَا، وَذَلِكَ أَيْضًا مِمَّا لَا يُمْكِنُ التَّمَسُّكُ بِهِ ; لِأَنَّ الْخَصْمَ لَا يَمْنَعُ مِنَ التَّمَسُّكِ بِالْأَمَارَاتِ مُطْلَقًا، بَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ فِي الْقِبْلَةِ وَفِي تَقْوِيمِ أُرُوشِ الْجِنَايَاتِ وَقِيَمِ الْمُتْلَفَاتِ وَتَقْدِيرِ النَّفَقَاتِ، وَفِيمَا كَانَتِ الْأَمَارَاتُ فِيهِ خَفِيَّةً، وَلَا يَلْزَمُ مِثْلُهُ فِي الْأَمَارَاتِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْأَقْيِسَةِ.
كَيْفَ وَإِنَّ مِنَ الْخُصُومِ مَنْ يَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ الِاجْتِهَادِ ثُمَّ اشْتِبَاهِ الْقِبْلَةِ وَيُوجِبُ التَّوَجُّهَ إِلَى الْجِهَاتِ الْأَرْبَعِ حَتَّى يَخْرُجَ عَنِ الْعُهْدَةِ بِيَقِينٍ؟ !
وَأَمَّا الْحُجَّةُ الْمَعْنَوِيَّةُ: فَهِيَ أَنَّ النَّصَّ وَالْإِجْمَاعَ مِمَّا يَقِلُّ فِي الْحَوَادِثِ وَيَنْدُرُ، فَلَوْ لَمْ يَكُنِ الْقِيَاسُ حُجَّةً أَفْضَى ذَلِكَ إِلَى خُلُوِّ أَكْثَرِ الْوَقَائِعِ عَنِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ وَهُوَ خِلَافُ الْمَقْصُودِ مِنْ بِعْثَةِ الرُّسُلِ، وَذَلِكَ مُمْتَنِعٌ وَهِيَ ضَعِيفَةٌ أَيْضًا.
(١) تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ تَعْلِيقًا فِي ص ٢٧٥ مِنْ ج٢.