لأنوار شموسهم؟ فهلا حفروا له بين أحناء الضلوع، وجعلوا الصفيح صريح الحبّ والولوع، فيكونوا قد فازوا بقربه، وجازوا فخرا خيّر لتربه؟ ويا ليت شعري إذا لم يفعلوا ذلك، ولم يهتدوا هذه المسالك! هل قضوا حقّ الحزن، وسقوا جوانب الضّريح من عبراتهم بأمثال المزن؟ وهل اتصفوا بصفة الأسف، أو قنعوا منها بأن وصفوها؟ وهل تلافوا بقايا الأنفس، بعد المفقود الأنفس، وأتلفوها «١» ؟: [الطويل]
فكلّ أسى لا تذهب النفس عنده ... فما هو إلّا من قبيل التصنّع
يا قدّس الله مثوى ذلك المتوفّى، وما أظنّ الجزع تمّم «٢» حقّه ووفّى. ولو درى الزمن «٣» وبنوه، قدر من فقدوه، لوجدوا المفاجئ «٤» الفاجع أضعاف ما وجدوه، فقد فقدوا واحدا جامعا للعوالم، وماجدا رافعا لأعلام المعالي والمعالم، ومفدّى ثقل له في الفدا، ونفوس الأودّاء والأعدا، ومبكى ما قامت على مثله النّوائح، ولا حسنت إلّا فيه المراثي كما حسنت من قبل فيه المدائح. رحمة الله عليه ورضوانه، وريحان الجنان يحيّيه به رضوانه. من لي بلسان يقضي حقّ ندبته، وجنان يقضي بما فيه إلى جثّته «٥» وتربته، وقد نبّهني «٦» حزني عليه وبلّدني، وتملّكني حصر الحسرة عليه وتعبّدني. وأين يقع مهلهل البديه، مما يخفيه مهلهل الثّكل ويبديه؟ يمينا لو لبثت في كهف الرويّة ثلاثمائة سنين، واستمددت سواد ألسنة الفصحاء اللسنين، ما كنت في تأبين ذلك الفصل المبين من المحسنين، إلّا أني أتيت بالطريف «٧» من بيانه [المعلم المطارف]«٨» والتّليد، ورثيت رشد كماله برثائه كمال ابن رشد أبي الوليد، فأنشدت بنيه قوله فيه «٩» : [الطويل]
أخلّاي، إني من دموعي بزاخر ... بعيد عن الشّطين منه غريقه
وما كان ظنّي قبل فقد أبيكم ... بأنّ مصابا مثل هذا أطيقه
ولم أدر من أشقى الثلاثة بعده ... أأبناؤه أم دهره أم صديقه؟
ثم استوفيت تلك الأبيات والرسالة، وأجريت بترجيعها من دم الكبد ونجيعها عبراتي المسالة، فحينئذ كنت أوفّي المصاب واجبه، وأشفي صدورا صديّة شجيّة