منها الآس «١» ، ومؤانسة عذبة لا تستطيعها الأكواس «٢» . وقد أثبتّ من كلامه ما تتحلّى به ترائب «٣» المهارق، ويجعل طيبه فوق المفارق. وكنت أتشوّق إلى لقائه، فلقيته بالمحلّة من ظاهر «٤» جبل الفتح لقيا لم تبلّ صدا، ولا شفت كمدا، وتعذّر بعد ذلك لقاؤه فخاطبته بقولي «٥» : [الطويل]
حمدت «٦» على فرط المشقّة رحلة ... أتاحت لعينيّ اجتلاء محيّاكا
وقد كنت في التّذكار بالبعد «٧» قانعا ... وبالريح أن هبّت بعاطر ريّاكا
فجلّت «٨» لي النّعمى بما أنعمت به ... عليّ فحيّاها الإله وحيّاكا
أيها «٩» الصّدر الذي بمخاطبته يبأى «١٠» ويتشرّف، والعلم الذي بالإضافة إليه يتعرّف، والروض الذي لم يزل على البعد بأزهاره الغضّة يتحف. دمت تتزاحم على موارد ثنائك الألسن، وتروي «١١» للرواة ما يصحّ من أنبائك ويحسن، طالما مالت إليك النفوس منّا وجنحت، وزجرت الطائر الميمون من رقاعك كلّما سنحت. فالآن اتّضح البيان، وصدّق الأثر العيان. ولقد كنّا للمقام بهذه الرّحال نرتمض «١٢» ، ويجنّ الظّلام فلا نغتمض، هذا يقلقه إصفار كيسه، وذا يتوجّع لبعد أنيسه، وهذا تروّعه الأهوال، وتضجره بتقلّباتها الأحوال. فمن أنّة لا تنفع، وشكوى إلى الله تعالى ترفع.
فلمّا ورد بقدومك البشير، وأشار إلى ثنيّة «١٣» طلوعك المشير، تشوّفت النفوس الصّديّة «١٤» إلى جلائها وصقالها، والعقول إلى حلّ عقالها «١٥» ، والألسن المعجمة «١٦» إلى فصل مقالها. ثم إنّ الدهر راجع التفاته، واستدرك ما فاته، فلم يسمح من لقائك