روحاني، وإنكار هم حشر الأجساد. وقد لوّح هو بأن ذلك مذهبه في آخر كتاب «الجواهر والأربعين» ، وخرّج بأنه معتقد كبار الصّوفية، في كتاب آخر، وقال: إن معتقده كمعتقدهم، وأنه وقع على ذلك بعد بحث طويل وعناء شديد. قال: وإنما كلامه في كتبه على نحو تعليم الجمهور. وقد اعتذر أبو حامد نفسه عن ذلك في آخر كتاب «ميزان العمل» ، على أغلب ظنّي، فإن لي من مطالعة الكتب مدّة. قال: ولو لم يكن في هذه الألفاظ إلّا ما يشكّك في اعتقادك الموروث، يعني التّقليد، فإنه من لم يشكّ لم ينظر، ومن لم ينظر لم يبصر، ومن لم يبصر ففي العمى والحيرة. ثم تمثّل بقول الشاعر:[البسيط]
خذ ما تراه ودع شيئا سمعت به ... في طلعة الشمس ما يغنيك عن زحل
وذلك أنه قسّم آراءه إلى ثلاثة: رأي يجاب به كلّ مسترشد سائل بحسب سؤاله وعلى مقدار فهمه. ورأي يجاب به الخاصّة ولا يصرّح به للعامّة. ورأي بين الإنسان وبين نفسه، لا يطّلع عليه إلّا من شريكه في اعتقاده. وأما الفقيه الفاضل أبو الوليد بن رشد، رحمه الله، فإنّه بالغ في ذلك مبالغ عظيمة، وذلك في كتابه الذي وصف فيه مناهج أدلّة المتكلّمين، فإنه لما تكلّم على طرق الأشعريّة والمعتزلة والفلاسفة والصّوفية والحشويّة وما أحدثه المتكلّمون من الضّرر في الشّريعة بتواليفهم، انعطف فقال: وأما أبو حامد، فإنه طمّ الوادي على القرى، ولم يلتزم طريقة في كتبه، فنراه مع الأشعرية أشعريّا، ومع المعتزلة معتزليّا، ومع الفلاسفة فيلسوفا، ومع الصّوفية صوفيّا، حتى كأني به:[البسيط]
يوما يمان إذا لاقيت ذا يمن ... وإن لقيت معدّيا فعدنان
ثم قال: والذي يجب على أهل العلم، أن ينهوا الجمهور عن كتبه، فإن الضّرر فيها بالذات، والمنفعة بالعرض. قال: وإنما ذلك لأنه صرّح في كتبه بنتائج الحكمة دون مقدّماتها، وأفصح بالتّأويلات التي لا يطلع عليها إلا العلماء الرّاسخون في العلم، وهي التي لا يجوز أن تؤوّل للجمهور، ولا أن تذكر في غير كتب البرهان. وأنا أقول: إن كتبه في الأصلين، أعني أصول الدين وأصول الفقه، في غاية النّبل والنّباهة، وبسط اللفظ، وحسن التّرتيب والتّقسيم، وقرب المسائل.
وكذلك كتبه الفقهية والخلافية والمذهبيّة، التي ألّفها على مذهب الشّافعي، فإنه كان شافعيّ المذهب في الفروع. وأما كتبه التي ذهب فيها مذهب التصوّف، فهي التي يوجد فيها ما ذكر من الضّرر بالعرض. وذلك أنه بنى الأكثر من الاعتقادات فيها على ما تأدّى إلى فهمه من مذاهب الفلاسفة، ونسبها إلى المتصوّفة. وقد نبّه على